يأخذ بعض المفكرين على القنوات التجارية تحولها إلى قنوات للتسلية والترفيه. وهو ما يبقيها على سطح الأحداث. ويجعل منها أدوات للتمويه وتغيير صورة الواقع. المرح والتسلية تعليق للفكر واستسلام واستئناس بالأحاسيس السارة، ومتع اللحظة الراهنة، أساس البرامج ومادتها الرئيسية.
كبريات الشركات التلفزيونية تتسابق في صناعة المتعة والتسلية. تحالفت شركتا CNN وWARNER لتأسيس أكبر شركة تلفزيونية عالمية للتسلية برأسمال قدره سبعة مليارات ونصف المليار دولار قيمة هذا التحالف هو في كونه يرسي نموذجاً له قوة جذب كبيرة، وبالتالي قدرة تنافسية عالية. وهو ما يدفع الآخرين إلى مجاراته بمقادير متفاوتة وحسب المستطاع. وتتحول التسلية إلى بناء عالم من المتعة والانشراح والحيوية اللذوية - الحسية، في حالة حلم برغد العيش وطيبه ليس المقصود هنا منع المتعة أو إلغاءها؛ فهي حاجة إنسانية لا شك فيها كي يجد المرء، توازنه ويستعيد حيويته بعد العناء والكد.
إنما النقد ينصب على تكريس المرح والتسلية كثقافة قائمة بذاتها، وكنمط من الوجود يقوم على مجرد الاستهلاك، واقتناص متع اللحظة الراهنة. المشكلة تبرز حين تقدم هذه الثقافة للشباب على أنها نمط الوجود المفضل، مما يقولب القيم والسلوكيات على حساب البناء والإعداد والإنجاز.
وتبرز المشكلة حين يتم الربط الشرطي ما بين ثقافة المتعة وصورة الشباب المتمتع بالحيوية والفرح والانطلاق والتحلل من الأعباء والعناء في حالة من اللهو وخفة الظل حتى العبثية. ذلك أن هذا الربط يدفع إلى الغرق في الراهنية دون ما عداها. ويرسخ صورة دنيا الحظوظ التي يجب الاستمتاع بها. متعة التسلية والمرح والراهنية يواكبها متعة الإثارة الحسية من خلال قنوات الموسيقى الراقصة ذات التوسع المستمر والتي تتوالد كالفطر.
مادونا ومايكل جاكسون هما النجمان الأبرز وواضعا نمط الموضة لعشرات الملايين من الشباب الباحث عن تخدير الحواس الذي يلغي الواقع. والمتطلعون لمجاراتهما يتكاثرون في مختلف الأصقاع لتقديم مشهد الشباب المأخوذ في الإثارة. الصورة بدون كلام، ونشاط لغة الجسد والإيقاع يعطلان عمل العمليات العقلية على الرائدة عالمياً هي المثيرات الواردة. الإثارة هنا تنفذ مباشرة إلى الدماغ مطلقة مثيرات النشوة العصبية في عالم لذوي متعي.
هذا الكلام ليس ضد حيوية وفرحة وانطلاقة الشباب، طالما وازنتها ثقافة الجهد والبناء والإنجاز. أما صدارة ثقافة المتعة كنمط أساسي من الوجود فهو المشكلة. وهو يتلاقى مع بقية مكونات ثقافة اقتصاد السوق، التي أصبحت تشكل كلا متكاملاً يعزز بعضه بعضاً. ويحل الحظوة والمتعة والعيش في الحلم محل الالتزام. على أن الإثارة لا تقتصر على فرحة الشباب وانطلاقته. فهذه لها إيجابيتها على كل حال.
قد يكون الأخطر منها الإثارة من خلال العنف، لقد أمست الصورة المرئية، خصوصاً تلك التي تبثها المحطات الفضائية للأخبار مشحونة أساساً بمحتوى عنفي حقيقي. نشرات الأخبار تكرّس لأحداث القتل والانفجارات والدمار والصراعات وطوفان المآسي البشرية الذي يصاحبها. ويتفنن المراسلون والمخرجون والمذيعون من أجل إحراز السبق في الإثارة، في التركيز على المشاهد الأكثر هولاً وقدرة على إحداث الصدمة الإدراكية كما تتسابق الوكالات على التقاط أشد المشاهد فظاعة لأن لها أكبر سوق من حيث الإقبال على بثها. طبعاً نحن هنا أمام موقع إنساني حقيقي لا مراء في ذلك.
إنما تكمن المشكلة في أن هذه المشاهد تعرض مسلوخة عن سياقها التاريخي السياسي. وتقدم مكثفة وكأنها حقيقة قائمة بذاتها. ندر أن اهتمت وكالات الأخبار الدولية وشركات البث بالوقوف عند تاريخ هذه الأحداث، ومسبباتها وأبعادها السياسية والإنسانية. كما يندر وبنفس الدرجة الوقوف عند نتائج بث هذا الفيض من العنف الحي على نفسية المشاهد، وخصوصاً الأطفال والناشئة.
لقد قام جدل كبير حول تأثير العنف في أفلام الصور المتحركة، والتي تبدو أقرب إلى اللعب والهزل على الأطفال. وأُجريت العديد من الدراسات التي أثبتت تأثر الطفل بهذا النوع من العنف، وميله إلى محاكاته في سلوكه اللاحق. بينما شككت بعض الآراء بخطورة هذه المادة على أساس أنها قد تعمل على تفريج الاحتقانات النفسية العنيفة عند الطفل إلا أن ما لا يمكن الخلاف بشأنه هو تأثير هذا الفيض من الإثارة من خلال العنف الحي والفعلي في بث أخبار القتل والتفجير، والمذابح الحقيقية. فهذه ولا شك لها آثار نفسية صدمية. إنها تثير مشاعر القلق وانعدام الأمن والإحساس بالعيش في عالم مليء بالأخطار والتهديدات. وإزاء هذه المشاعر يميل الناس العاديون إلى توسل الدفاع النفسي من خلال آلية التبلد وتجميد المشاعر. وهذه لها خطورتها بالطبع على المشاركة الإنسانية والاهتمام بالقضايا العامة. وتكمن خطورة التبلد الإنفعالي في إمكانية تعميمه من خلال الإنكفاء إلى الذاتي.
وإذا أضفنا إلى الأخبار مقدار نسبة أفلام العنف المتعاظمة التي تعرض على الشاشة، يتضح مقدار جرعة العنف التي تتراكم دماغياً عند الناشئة، حتى ليبدو معها حالة عادية مبتذلة. تذهب رابطة علم النفس الأمريكي APA، المعروفة برصانتها العلمية، إلى أن الطفل الأمريكي حين يصل إلى نهاية المرحلة الابتدائية يكون قد رأى 8000 ثمانية آلاف حالة اغتيال و100000 (مائة ألف) اعتداء عنيف على شاشة التلفزيون، بمعدل 3 ساعات مشاهدة يومياً. وإذا كان العنف يفرج حتى عتبة معينة، إلا أنه يؤدي بعدها إلى تراكم الإثارة غير القابلة للاستيعاب.
مما قد يقود إلى السلوك العنيف ويمكن أن يحدث ذلك في حالة من وهن الفواصل ما بين الصورة المرئية والواقع واختلاط الخيال بالحقيقة، مما يجعل سلوك العنف يتم في حالة شبة حلمية، لا تتخذ طابع الفعل الخطير، بل طابع الفعل المبتذل على أساس أن هذا هو حال واقع الأشياء.
في كلتا الحالتين: إثارة التسلية وإثارة العنف، تفرض الصورة منطقها على النشاط العصبي للدماغ ويكون ذلك بالطبع على حساب النشاط العقلاني، الذي يحتاجه الشباب أكثر من أي وقت مضى لمجابهة تحديات ومتطلبات عالمهم والقدرة على التعامل معها: إنه عالم المغامرة والمخاطرة والإثارة، بدلاً من عالم التفكر والتدبر والتهيؤ لمقتضيات الاقتدار المعرفي الطلوب.
اضافةتعليق
التعليقات