للأسف، تُعامل الأسس العلمية لتنشئة الطفل بنوع من اللا اكتراث، وتؤخذ موروثات الأجداد الفكرية وتُلقن للأطفال وكأنها حقائق، ونعيد إنتاج أنفسنا بدلًا من تطوير عقول الجيل القادم. عند شعور الطفل بالخوف من التعبير، تكون قد حرمته من تكوين رباعية ذاته الحقيقية معتقد، عمل أو «شغف»، علاقة، نمط حياة، فهو لا يستطيع أن يكون على سجيته ولن يشعر بالتقبل، ومن جهة أخرى سيتعرض للكثير من الظواهر التي لن يستطيع الحديث عنها، ربما تحرش جنسي أو تنمر لأنه يخاف ولا يشعر بالأمان الداخلي.
حيث إن تعلقه بأبويه أصبح تعلقًا غير آمن «غير مبني على تقبل كامل» وسيكون أيضاً خائفاً من أي خطأ، وهذا سيحرمه من الكثير من التجارب في الحياة التي هي معيار أساسي للنضج. كلما ازدادت تجاربك بالحياة وأمعنت في دراستها، ازداد نضجك. فهو أبدًا غير مقترن بعمر الإنسان.
الأم التي تعاني عُقدة الخضوع ستجعل طفلها يشعر بأنه لا يملك سنداً أو مأوى، فهو يعرف يقينًا بأنه إذا تعرض للضرب أو الإهانة من الأب المتمادي فلن يجد محاميا صارماً للدفاع عنه ببسالة، فالأم التي تملك استحقاقاً وثقة بالنفس لن تسمح بأي تماد مع طفلها، وستقف بوجه الأب وقد يصل بها الأمر للانفصال عنه إذا أصر على التمادي في عنفه ضد طفلها.
لكن الأم الخاضعة تظل صامتة، ترى أبناءها يتعرضون لمثل هذا الأذى وتردد «سأظل لأجل أبنائ » دون أن تحرك ساكنًا. لن يحترم الطفل أمه ولن يثق بها إذا مر بمثل هذه التجربة، الأم التي تهان أمام عينيه لن يثق يوما بآرائها ولن تكون لها قيمة عالية لديه، إما سيشفق عليها أو سيتمادي عليها، وهذا يعتمد على نمط شخصيته وكمية التشوهات التي تعرض لها، وذاته الحقيقية إن كانت تميل للخير أو لإيذاء الآخر.
لا توجد مصطلحات مثل الخير والشر بالتحليل النفسي، لكن نعبر عنها بالقدرة على إيذاء الآخر كمصطلح، ويختلف البشر في هذا الأمر. تنتشر في المدارس مفاهيم غير سوية عن ماهية الرجل وتعريفه، يقدمونه کمزیج مشوه لعادات وتقاليد ومعتقدات غير سوية. تتم السخرية من كلمة مشاعر وربطها بالأنوثة، والمشكلة هنا تكمن في أننا منذ طفولتنا نربط كلمة شعور بالعار فتصبح كل صور التعبير عن المشاعر من حزن وخوف وألم وحميمية أمراً خاطئاً ومعيباً ولا يمكن البوح به، والمعضلة الأخرى أننا نربط الأنوثة بالدونية، فأنت عندما تلقب رجلًا بـ «الأنثى» يراها إهانة عظمى، وهذا يشوه النظرة للجنس الآخر أيضاً.
إذا أمعنت الملاحظة في اللغة الدارجة بين الرجال، ستجد السخرية والوقاحة والشتم هي اللغة المتداولة والمتعارف عليها، ومن فقد القدرة على التعبير عن مشاعره سيتلوث بهذه الطرق من التعبيرات غير السوية. في بعض الأحيان تستخدم السخرية كوسيلة للقرب والألفة وتكون على شكل مصطلح عامي يدعى «الميانة»، رغم أن معنى كلمة
«الميانة» الحقيقي هو أنني قريب منك وأستطيع التعبير بحميمية وثقة متبادلة، ولكن ساء استخدامها بتعبيرات غير سوية. قد تجد شاباً يعبر لآخر عن شوقه له بشتم مثل (يا حیوان اشتقنا لك) لأنه يخجل من قولها (اشتقت لك، أو لك محبة كبيرة في قلبي)، لاحظ أنه استخدم أسلوب الجماعة «اشتقنا لك» وليس «اشتقت لك»، وهذا يدل على خوفه من الحميمية والقرب بشكل سوي، لربما يفهم بشكل خاطئ.
التنمر يساهم في تحطيم الاستحقاق، وإذا لم يتم توضيح كيفية التعامل معه على أرض الواقع فأنت في الطريق إلى الهلاك النفسي مستقبلًا، نحن نعيش في عالم تحكمه إرادة القوة، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، وهنا أن يتم إعداد الطفل بالفنون القتالية وأساليب الدفاع عن نفسه قبل كل شيء، لأنه لربما تعرض لموقف يجب أن يتعامل معه بسرعة ولا يستطيع الانتظار للشكوى على المتنمر، وإذا مر الموقف وتم ضربه أو إهانته ولم يرد بنفسه سيخلق هذا صدعًا في نفسه ولربما عقدة الخضوع. يجب باختصار من يضربك اضربه، ومن يهينك أهنه هو مبدأ الواقع، لكن إذا تركته يضربك ثم اشتكيت أو تركته يهينك وأدرت ظهرك متجاهلًا سيصنع هذا كبتا شعوريا في أعماقك، وقد تعود للمنزل وأنت تفكر لماذا لم أرد؟ وتتخيل سيناريوهات ترد فيها على هذا المتنمر «سردية الخيال».
نصائح بعض الأبوين تقول «لا تفعل شيئًا وقدّم شكواك في من يتعدى عليك، كُن حذرًا فقد تتعرض للضرب المبرح أو الطعن وتتأذى» فتجعله خائفاً غير قادر على الدفاع عن نفسه. يجب أن يشعر الطفل بالأمان مع الأبوين لكي يستطيع فتح قلبه ومحاورتهم ومشاركة مخاوفه، ولكن الأبوين اللذين يعتمدان منهج الوعظ والتخويف من العقاب، يجعل الطفل مترددًا في طرح خبايا نفسه، ولهذا كثير من الأطفال يتعرضون لتجارب مثل التحرش والتنمر ويظلون صامتين.
يؤلمني جدًا عندما أسأل الشخص عن علاقته بأحد الأبوين ويذكر أنها رسمية، فأساس العلاقة معهما هي تنشئة روحية عاطفية نفسية وليست اعتناءًا ماديًا فقط. ولكن للأسف الوعي الجمعي بفكرة الإنجاب منخفض، ولو كان بيدي لجعلت هناك قانوناً يفرض على الأبوين التسجيل في أكاديمية لتنشئة الطفل السوي، ولا يسمح لهما بالإنجاب إلا إذا نجحوا في أهم منهج قد يدرسونه في حياتهم، منهج تنشئة طفل واع.
اضافةتعليق
التعليقات