تحاورت بيني وبين ذاتي ذات مساء عندما حرّك الهواء الارجوحة، ارتفعت قليلا لكنها رجعت الى القاع الذي ارتفعت منه، فكّرت في أنّ أيّامي تدور كهذه الارجوحة، ترهقني الدنيا كثيرا، مالم ترفعني نحو السماء، حتى اهبط سريعا، يخالجني شعور بأني الآن معلقة بين الارجوحة والايام، ماذا لو انقطع الحبل، اين يقع جسدي، في أي قاع؟!
شعرت بالخوف كيف لو حصل ذلك، تقدمت نحو الارجوحة، امسكت بها بقوة حتى اشتد الحبل على يدي: اما حان الوقت الذي تتوقفين فيه! خرساء لا تنطق، تريد ان تسمع لا ان تتكلم، جلست على مقعدها الخشبي بعدما ارتديت ثوب الصلاة الابيض ومسكت بطرف حبلها، هذه المرة كانت برغبتي اردت ان تسمعني وتكف عن ارجوحتي فلم يعد القلب يتسع اكثر من هذا.
يخط الثوب الارض ويرتفع، رفعت صوتي وقلت لها: اسمعي يا ارجوحتي، هذه قصتي، بعد خمس سنوات من الانتظار وقسوة الايام التي امضيتها بالدعاء والطلب، كان القدر يرسم لوحة، والايام تضع اثقالها، امنياتي واحلامي كانت ترسم لوحة اخرى.
امنيتي ان احمل بجنين يشاركني الجسد، لم اترك عملية جراحية الا وقد اجريتها، لم اطلب المستحيل فقط اردت روحا تسكن في داخلي، اخذت ابحث عنه في كل مزار لعل الله يستجيب دعائي ويرزقني تلك الفرحة الصمّاء.
فقلت في نفسي ربما يكون لي يوما من الايام هكذا هي ثقتي بربي، ولكني طرقت كل ابواب الطب ولم اجد من يفتح لي الباب ويحقق لي امنيتي، دفعت الكثير والكثير، وذهبت كهباء منثور في صحراء جرداء، كلام الناس يؤلمني كلما سألوني عنه، ونظراتهم تحرق ايامي، اخفي دموعي عنهم واقول: "لسوف يعطيك ربك فترضى".
اعتكفت، لا ارى احد ولا يزورني احد حتى انني بعدت عن احبتي خوفا من السؤال وصعوبة الجواب، اردد صبرا يا قلبي..
بعد عام من اجراء العملية الخامسة وعن طريق المراجعة الشهرية علمت بان الحلم تحقق ها هو الجنين يظهر في "الاشعة" لم اصدق كلام الطبيبة وطلبت منها ان تعيد النظر لعلها مخطئة، رددت وقالت هذا هو الجنين، لأول مرة اشعر بانّ لي قلب ينبض، نبضاته كانت ترقص واوتاره تعزف، دموع الفرح تختلف باردة منعشة، فرحتي كانت كعاقر رزقها الله، كم كنت اتمنى ان اخبئ جنيني في مكان ما بين ضلوعي.. او داخل قلبي لكني اخاف ان تزعجه نبضاته، اين اخبئ جنيني بين العين والهدب لا ايضا تزعجه الرمشة تمنيت ان يكون صندوق داخل احشائي واغلق عليه المفتاح حتى لا يزعجه شيء ولا يخطفه احد مني ترى متى سيأتي؟
اربعة اسابيع وجنيني معي يشاركني الطعام والشراب، ضحكتي ودمعتي، نومي ويقظتي، بدأت اشعر بعوارض الحمل، سعيدة جدا بهذه العوارض حتى الالم كنت اتحمله من دون علاج يسكنّه، ليلي كان طويل، عقارب الساعة متوقفة، ثمة امر ينتظرني كنت على يقين من ذلك، كعادتي الفرح لا يطيل معي، سويعات او بعض ايام.
جرت الريح بما لا تشتهي السفن، تغير الحال تائهة انا بعالم الاحلام، في زمن تغيرت فيه كل الامنيات و هاجرت تلك الدعوات الى مكان بعيد لا نعلمه، و اصبح مكانه فارغا قاسيا، لا أصدق او لا اريد تصديق ذلك الكابوس، جلست أتذكر وأنا لم أنسَ لحظة منفردة بنفسي ذلك الخبر الحزين عندما اخبرتني الطبيبة انني فقدت جنيني، لم تكن الصرخة كافية، ولا دمعة..
لو كان الموت يشترى لا شترتيه، لم اكن أتوقع له الرحيل بهذه السرعة، كم أشتاق لرؤياه، أشتاق لنبضه، يتعالى بكائي في كل صوب حزناً على جنيني، أحلامي تطاولت وادمعي سالت ففي عنقي هي تلك الأماني، التي لم اجد لها جوابا كافيا، وهذا هو الجواب الذي كان يحيرني منذ اربعة اشهر مضت.
امسح دموعي وانا احاول ان اضع ابتسامة في ثغري، أُهَمِّسُ لِعائلتي: لا تقلقوا انا بخير، رأيْتُ دموعاً تترقرَقُ في عينيّ والدتي، سمعتُ أنينها، تندب حظي العاثر، ككل مرة يغتال القدر ابتسامتي ويقتل ثالث جنين لي، والاكثر موجعا ان جنيني فارق الحياة ولكنه لم يفارق جسدي، بعد عدة محاولات من اجهاضه لكنه كان ثابتا في مكانه، حتى اخر ساعة من يوم الثلاثاء بعدما اسعفني زوجي الى المشفى النسائي، سمعتُ أصواتهم يصرخون انّ الحالة طارئة، لأوّلِ مرّة أتمنى ان اموت ولا ارى جنيني يقطع، حقّاً أقول كنت جثة، أظلَمت عليّ الدّنيا في انتظار ولادته لا اجهاضه، نظرتُ الممرضة إلى عيني وهيَ تواسيني وتُعزّيني، بأنّ هذا أمر الله، وما عليّ إلا الصبر، أمسكَتْ بيميني، حينها فقط شعرتُ ببرودةِ أطرافي، اجريت العملية من دون "مخدر" لسوء وضعي ولكثرة العمليات.
نظرْتُ الى من حولي في الصالة كلهم يحتضنون اطفالهم الا انا، خرّت قُوَايْ اجلسوني على الكرسيّ بعد الانتهاء من العملية، وجوه غريبة، ملامح الشفقة، دموع متحجّرة في مقلتي، أصبحت سفيرة لآلامهم وأحزانهم.
تؤرقني تلك الذكريات وترهقني يا ارجوحتي..
تتعبني وتجبر دمعي على النزول، صار الحزن رفيقي خبّأت عمري في دهاليز الزّمن، وملأت حقائبي بأيّامي، ووضعت سعادتي في كلّ من أحبّ، نهايتي هي السقوط في قاع العزلة والذكريات.
لقد صار الحزن أن أمشي مع الأيّام، ومع حزني الذي أتنفّسه، ودموعي التي أعيش بها، يا عمري المسلوبة منذ صغري، آه يا لقسوة القدر، اه يا ارجوحة الايام، كم من صعب أن افارق روحاً كانت معي ترحل وتبقى أنفاسه في قلبي، يمزّقني فراغ مكانك.
طيلة كلامي معها لم تنطق ولم تحرّك من القاع، صمتها مريب، حملتني الأرجوحة على كفها،
لتحلق بي نحو السماء، روحي تصارع خفقات قلبي المرهف، كطائر بلا جناح تساعده الرياح كي يطير، ارتفعت الارجوحة، رمت بي في مكان فيه مهد صغير مرصّع بالدر المكنون تجلس بالقرب منه سيدة ترتدي ثوب طويل وبرقع ابيض، مسكت بيدي واجلستني قرب المهد وهي تناغيه وتقول: وصلت امك يا عزيزي، احتضنت المهد وما فيه، سمعت صوته، ارتعش جسدي، ارتفع انيني، حملتني الارجوحة وهوت بي الى القاع مرة اخرى، حينها فزعت من نومي، وعرفت بانّ ما رأيته كان حلما.
اضافةتعليق
التعليقات