اشتكى شاب من الفشل والتعقيدات الكثيرة التي تظهر في حياته رغم محاولاته المتكررة لتحقيق النجاح، لكن دون جدوى.. ويقول الشاب:
- أنا لست شخصاً سيئاً كي تعترض طريقي كل هذه الأزمات والفشل في حياتي.. كأن الحزن غيمة سوداء متربعة على رأسي! إنني إنسانٌ صالح، أواظب على صلاتي وأتجنب المحرمات وأعامل الناس بلطف وأحترمهم.. لكن لا أعرف لماذا تهتك حياتي بهذه الأزمات؟!. فسألته:
- هل أنت بار بوالديك؟.
أجابني بدون تردد وعلى ثقة من نفسه:
- بالطبع!. قلت له:
- أمتأكد من أنه ليست على عنقك عقوق؟ فتأمل لبرهة وقال:
- بالطبع لست عاقاً! لا أذكر بأنهم نعتوني بالعاق أبداً في حياتي. قلت له:
- ليس شرطاً أن ينعتوك بالعاق أو يدعيا عليك أو يقولا لسنا راضين عنك لتعرف بذلك أنك عاق، بالطبع لا، بل عدم تلبية طلباتهم أو تلبية طلباتهم بإكراه وتماطل والقيام بالأمور التي لا يحبذونها وعدم احترام مقامهم والتذمر أو الاستهزاء بأفكارهم وأفعالهم، هذه الامور كلها كافية لتجعل منك عاق الوالدين، فتكون قد عققتهما وأنت لا تعلم .
إذ ليس بالضرورة أن ينطقا أو يخبراك بها، ولكن ما تسببه لهم من أذى وحزن كافيان لأن تكون عاقاً وهذا السبب الرئيسي في التعقيدات والفشل في حياة الإنسان .
فسألته: من الذي أنشأنا؟.
أجاب: الله جلَّ اسمه.
فقلت له: وبماذا أنشأنا؟.
قال: بالأبوين.
نعم، فالله ما منه الوجود، والأم والأب ما به الوجود .
فكل كمالاتنا مرهونة بوالدينا، كل عمل خير نعمله الى آخر حياتنا مرهون بالوالدين، كل صلاة نصليها.. كل حج نحجه.. مرهون بالوالدين حتى إحساننا للوالدين هذا مرهون بهم، أي نحن عندما نقدم خدمة لوالدينا هذا باب توفيق من الله تعالى قد فتح لنا، فلو أنفقنا كل أعمارنا في خدمة الأبوين ما أدينا حقهما .
قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، ما حقّ الوالد؟ قال (صلى الله عليه وآله): "أن تُطيعه ما عاش" فقيل: ما حقُّ الوالدة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): "هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيّام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها". (المصدر: مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج15 ، ص203).
فسبب كل هذه الأزمات والتعقيدات والمشكلات في مجتمعنا الإسلامي يعود أساسه وأصله في هتك حرمتهم.. حرمة مقام الوالدين.. نعم، فهذه الحرمة قد هتكت وانتشرت بشدة في زماننا. وبذلك سوف نواجه الفشل مهما حاولنا النجاح، فلن نفلح، وسنرى التعقيدات الكثيرة في حياتنا، والطامة الكبرى أننا كثير من الأحيان لا نعلم ما سبب هذه المشكلات.
فترى الغني يشكو.. والفقير يشكو.. المعافى يشكو.. والمريض يشكو.. والكل يشكو..
لماذا؟!، إذ أنَّ الأكثرية ليس براضٍ عن حياته، فالمحبة قد اختل توازنها، وهتكت حرمة الوالدين وانتقص من حرمِ مقامهما.. فترى الأرزاق خالية من البركة.. لكن، أَنظرنا وتأملنا وتمعنَّا في السبب؟؟ إذ أنَّ جميع الخيرات والبركات قد وضعها الله تعالى في كفَّي والدينا.. فهلَّا أتينا وانحنينا وقبلنا هذه الأيدي؟. رزقنا كله يعتمد ارتباطاً مستقيماً بدعائهم لنا.
أن تمسك التراب لينقلب ذهباً.. أن يكون عمرك مباركاً.. أن تكون ذريتك مباركة.. أن يكون علمك، معرفتك مباركاً كله مرتبط ارتباطاً وثيقاً بوالديك.. العلماء الكبار جميعهم وصلوا لهذه المرتبة العظيمة بفضل برهم لوالديهم ودعاء الوالدين لهم .
وقيل للإمام زين العابدين (عليه السلام):
أنت أبر الناس، وأوصلهم رحماً فلماذا لا تؤاكل أمك؟.
فأجابهم جواب من لم تشهد الدنيا مثل أدبه وكماله قائلاً :
أخشى أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليها.. فأكون قد عققتها…/ المصدر: شذرات الذهب ج 1 ص 105 الكامل للمبرد ج 1 ص 302 . عيون الأخبار لابن قتيبة ج 3 ص 97.
فإنها لم تكن أم الإمام الحقيقية بل كانت مربيته.. نعم، لم تكن أمه من لحمه ودمه وكان يراعي الإمام الى هذه الدرجة..!
فإذا كانت حرمة التي ربتنا هكذا.. فكيف الحال بمن أيضاً حملتنا تسعة أشهر في أحشائها، وغذتنا من دمها، وفرقنا عظامها، وشققنا جلدها، فحرمناها الراحة والنوم، وامتصصنا من عافيتها مايكفي لإمراضها.. ثم خرجنا منها بشق الأنفس..! فاحتضنتنا بحنان فائق.. و نست أو تناست كل الآلام التي سببناها لها فغذتنا من بعد ذلك من حليبها بسعادة، فعلى الرغم من الألم الذي كانت تشعر به لكنها كانت سعيدة لراحتنا، وفي جميع مراحل حياتنا تراها تضحي بنفسها وتقدمنا على راحتها و تنسى نفسها..
كل هذا مقتطف ضئيل جداً من تضحياتهم لنا..
فالآهات كثيرة.. والكلام طويل.. والقلم يعجز عن كتابة ربع جهودهم، فالتمس العذر منهم..
فبرّ الوالدين يشمل الإحسان إليهما بالقلب، والقول، والفعل تقرّباً إلى الله تعالى، ويقابله عقوق الوالدين، ويعني إغضابهما من خلال ترك الإحسان إليهما، وقيل أنّ عقوق الوالدين هو كلّ فعل يتأذَّى منه الوالدان، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة .
عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"ما من رجل ينظر إلى والديه نظر رحمة، إلّا كتب الله له بكلّ نظرة حجّة مبرورة" قيل: يا رسول الله، وإن نظر إليه في اليوم مائة مرّة؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "وإن نظر إليه في اليوم مائة ألف مرّة" (المصدر: مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج15، ص204).
إذ بعد التوحيد لله وعبادته سبحانه يأتي حفظ حرمة مقام الوالدين، قال تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} {سورة الإسراء}.
فالله الذي هو المالك، الذي هو الآمر، الذي هو الناهي، أمر بذلك وقضى بذلك فأول شيء العبادة لله، التوحيد في العبادة وبعدها أي بالمرتبة الثانية "وبالوالدين إحسانا"، لكن أي نوع من الإحسان؟ لم تحدد الآية، أي كل أنواع الإحسان مشمولة بهذه الآية الكريمة .
ولكن قد نتساءل هل هذه الآية للوالدين المؤمنين فقط؟
بالطبع لا، ليس هنالك تحديد، أي حتى المخالفان؟ نعم.. حتى الفاسقان؟ نعم.. حتى الفاجران؟ نعم.. حتى المشركان؟ نعم.. حتى الكافران؟ نعم..
إذ فقط في أمر واحد يجب عدم إطاعتهما، قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } {سورة لقمان{.
و معنى الآية: و إن بذلا جهدهما أن تشرك بالله تعالى فلا تطعهما لأنه اتباع ما ليس لك به علم، و معاشرتهما بالمعروف شامل لحالة كون الأبوين مشركين فإن على الإبن معاشرتهما بالمعروف كالإحسان إليهما وصِلَتَهما .
والبعض يكون باراً فقط في حياتهما وبعد وفاتهما يصبح عاقاً، كما ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "إنّ العبد ليكون برًّا بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضي عنهما ديونهما، ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقًّا، وإنّه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما، غير بارٍّ بهما فإذا ماتا قضى دينهما، واستغفر لهما فيكتبه الله عزّ وجلّ بارّا". (المصدر: الكافي ج 2 ص 163).
فلا يقتصر بر الوالدين في حياتهما بل وحتى بعد مماتهما أيضاً ..
وقد جاءت الوصايا والتنبيهات وافرةً من بيت النبوّة والرسالة، أن يستدرك المرء نفسه، ويخرج عن غفلته، ويجدّ في العمل قبل حلول الأجل، ويهيأ نفسه كل يوم: للمراقبة، ثمّ للمحاسبة، ثمّ للمعاتبة أو المعاقبة .
فالأمر خطيرٌ جدّاً، والعاقل مَن وقى نفسه ممّا يُخلده في العذاب الدائم .
فإن تأملنا، ورجعنا إلى أنفسنا وحاسبناها كل يوم، ودرسنا أفعالنا طيلة اليوم، ماذا سيحدث؟ فالتأمل ومحاسبة النفس أمر في غاية الأهمية .
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أكيَسُ الكيِّسِين مَن حاسَبَ نفسه وعَمِل لما بعد الموت، وأحمقُ الحمقى مَن أتبَعَ نفسَه هواه، وتمنّى على الله الأمانيّ. (محمدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص405).
وعن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل خيراً إستزاد الله منه، وحمد الله عليه وإن عمل شراً إستغفر الله منه وتاب إليه (المجلسي: بحار الأنوار: ج 70 ص 64).
فعندما نتأمل على ما فعلناه في يومنا من ذنب أو تصرف سيء و حاسبنا أنفسنا واستغفرنا وتعهدنا على ترك معاودتها بإرادتنا القوية، فبذلك تطهّر قلبك من الدّنس وتصفي روحك وتطلقها نحو موطنها الأصلي، وهي العليا، فليس من العيب أن نخطئ ولكن العيب في تكرار الخطأ .
فترى أن العقد في حياتك تتفتح.. وقد حلت جميع أمورك التي شغلت بالك وفكرك، إذ ترى النجاح ينجلي في حياتك واحدة تلي الأخرى .
نعم.. فَسِرُّ الموفقية في بر الوالدين ..
فعندما تأمل هذا الشاب كان هذا بمثابة جرس منبه أيقظه من غفلته، نعم فكان في بعض الأحيان عندما يطلب الأبوين منه طلب يماطل ويشكو أو يؤديها بإكراه، وعندما لا تمشي الأمور حسب إرادته يغضب ويعلو صوته، وكان عندما يرى شيء لا يعجبه من أفكارهم وأفعالهم يتذمر أو يستهزأ بهم فكان بذلك يكسر قلبهم وهو لا يعلم.
فويلٌ للذي يكسر قلب والديه بكلامه أو بفعلته وويلٌ للذي يخاف الوالدين بأن يطلبوا منه طلباً خوفاً من عصيانه أو أن لا يلبي لهم ما طلبوا أو يؤذيهم بمماطلته وتذمره الشديد أو أن يوحي ويعطي انطباعاً لوالديه بأنه سقف لا أحد يصل إليه، فإن وصل إليها الإنسان فهي مرحلة ظلم، فالأبوان لا يظهران لك دائماً أنهما مستاءان من كلامك أو فعلتك، بل أغلب الأوقات تراهما يدفنان هذا الإحساس في أعماقهما، لئلا تتكدر العلاقة بينهما وبين أبنائهما .
فترى العقد الكثيرة في حياتك من حيث لا تحتسب وتتساءل لماذا لا أنجح في أموري؟ من أين يأتي كل هذا الفشل في حياتي؟، نعم فبر الوالدين أمر في غاية الأهمية، وهو السبب الرئيسي في نجاحك وارتقائك وصعودك سلم الموفقية .
وتذكر الرواية الشريفة عن بعض الأمور التي يجب أن تلتزم بها والأمور التي يجب أن تتجنبها وهي:
عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: "﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئًا ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عزّ وجلّ: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ قال: ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام) وأمّا قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ قال(عليه السلام): إن أضجراك فلا تقل لهما: أف، ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدّم قدّامهما (المصدر: الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص157،158.
وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من نظر إلى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة. (المصدر: الكافي ج2: 349).
و المقصود من الرواية الشريفة أي "وهما ظالمان له" أي آثمين لأنهما ظلماه وحملاه على العقوق، إذ يجب في كل الأحوال برهما وإن ظلموه، فكيف الحال إذا كانا بارين به؟.
فألزم نفسك بأن تكون المفضل لديهم فتكون أول خيار لهم، وكن متواجداً ومستعداً دائماً لمساعدتهم في الأمور التي يحتاجون فيها لمساعدتك حتى قبل أن يطلبوا ذلك، والإفتخار بهم و إن لم يكونوا أهلا لذلك، وألزم نفسك بأن تقوم بعمل أشياء ولو بسيطة أو بقول كلام أيجابي لإسعادهم ولتحفيزهم والرفع من معنوياتهم، تقبل رأيهم وانصت وتفاعل مع حديثهم وإن تكرر منهم، وابتعد عن اللغو و الأحاديث السلبية في حضورهم، وانظر إليهم مباشرة بتذلل، وقم بضم الوالدين وقبِّل رأسهم و أيديهم و أرجلهم و قربهم إليك وعبّر عن حبك لهم، وقدمهم على كل شيء و على كل الناس .
وقبل أن نعض أيدي الندامة على حسرة فقدانهما فلنحسن إلى والدينا ولنعرف قدرهما قبل أن يفوت الأوان ..
أروهم أن تعبهم لم يذهب سدىً بل أتى بثماره، فبر الوالدين هو "المفتاح الذهبي" فتمسك به جيداً!، ولا تضيعه كما أضاعه الكثير..
تمسكوا به بشدة.. لتصلوا الى قمة السعادة في دنياكم و آخرتكم بإذن الله تعالى .
قال تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} {سورة الإسراء}.
اضافةتعليق
التعليقات