لو تأملنا في ما قدمه أنصار الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم يوم الطفوف من تفانٍ في نصرته والتضحية لأجله بأرواحهم ومهجهم قرابين رخيصة، وفي ما قدمه أعداءه اللعناء وشدة تباريهم وتنافسهم في مَن يحوز برأس الحسين الطاهر ورؤوس عترته وأصحابه كي يفوز بعطاءات الحاكم يزيد بن معاوية وعبيدالله بن زياد، لوجدنا الحافز والفارق بينهما متباين ومتباعد جدًا.. بُعد الثَّرى عن الثَّريَّا.
فمنهم من جدّ واجتهد على نصرة الحسين صلوات الله وسلامه عليه، وعدّ الآخرة خيرٌ له من الأولى، وفاز بحسن الصحبة والخلود معه في الجنان، ومنهم مَن خرج على الحسين وكانت الدنيا ولذائذها أكبر همه وآخر مُناه، فخسر الأولى والآخرة خسرانًا مبينا.. واستحق اللعن والسباب من المؤمنين في كل آنٍ وحين..
والرواية الآتية تبين بإسهاب ذلك المعنى.. فلنتأمل.
"فبلغ العطش من الحسين صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه، فدخل عليه رجل من شيعته يقال له: يزيد بن الحصين الهمداني، قال إبراهيم بن عبد الله راوي الحديث: هو خال أبي إسحاق الهمداني فقال: يا بن رسول الله [أ] تأذن لي فأخرج إليهم فأكلمهم؟ فأذن له، فخرج إليهم، فقال: يا معشر الناس إن الله عزَّ وجلَّ بعث محمدًا بالحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها، وقد حيل بينه وبين ابنه، فقالوا: يا يزيد فقد أكثرت الكلام فاكفف فوالله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله، فقال الحسين صلوات الله وسلامه عليه: اقعد يا يزيد. ثم وثب الحسين صلوات الله وسلامه عليه متوكئًا على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: أنشدكم الله هل تعرفوني؟ قالوا: نعم، أنت ابن [بنت] رسول الله صلى الله عليه وآله وسبطه.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلامًا؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن سيد الشهداء حمزة عم أبي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا متقلده؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لابسها؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن عليًا كان أولهم إسلامًا وأعلمهم علمًا وأعظمهم حلمًا وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فبم تستحلون دمي؟ وأبي الذائد عن الحوض غدًا يذود عنه رجالًا كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد جدي يوم القيامة، قالوا: قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشانا. فأخذ الحسين صلوات الله وسلامه عليه بطرف لحيته وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة، ثم قال:
اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا: عزيز ابن الله، واشتد غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، واشتد غضب الله على المجوس حين عبدوا النار من دون الله، واشتد غضب الله على قوم قتلوا نبيهم، واشتد غضب الله على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن بنت نبيهم.
هنا لم يتمالك الحرّ الرّياحي رضوان الله تعالى عليه نفسه لما سمع ناعية ابن فاطمة صلوات الله وسلامه عليها، فضرب أروع لنا مثال للحرية، ورفض الظلم والذل والهوان، كما ذكر عنه.
(قال: فضرب الحرّ بن يزيد فرسه وجاز عسكر عمر بن سعد لعنه الله إلى عسكر الحسين صلوات الله وسلامه عليه واضعًا يده على رأسه وهو يقول: اللهم إليك أنيب فتب علي، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك، يا بن رسول الله هل لي من توبة؟ قال: نعم تاب الله عليك، قال: يا بن رسول الله ائْذَن لي فأقاتل عنك، فأذن له فبرز وهو يقول:
أضرب في أعناقكم بالسيف * عن خير من حلّ بلاد الخيف
فَقَتل منهم ثمانية عشر رجلًا، ثم قُتِل، فأتاه الحسين عليه السلام ودمه يشخب فقال: بخ بخ يا حرّ أنت حر كما سُمِّيت في الدنيا والآخرة، ثم أنشأ الحسين صلوات الله وسلامه عليه يقول:
"لنعم الحرّ حرّ بني رياح صبور عند مختلف الرّماح
ونعم الحرّ إذ نادى حسينًا فجاد بنفسه عند الصباح"
فقال أبو الأحرار: "أما بعد فإنه مَن لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلُغ مَبلغ الفَتح .. فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا يناصرنا إلَّا هلك").
هنيئًا لمن عرف إمام زمانه وولي نعمته حق المعرفة، والتحق بسفينة نجاته..
والخزي والعار لمِن سَقط في الفتنة { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا..}.. ولم يتدارك في ذلك اليوم فَتحًا ولا ركبًا مع إمامه المبرور الموعود بالحق المبين سيد الشهداء الحسين صلوات الله وسلامه عليه،.. ألَيس السواد الأعظم من الشيعة آنذاك كان على مثل هذه الحال؟!، وأين نحن اليوم من إمام زماننا المهدي بقية الله المهدي المنتظر. فهلَا عرفناه ونصرناه..
صدق الباري تعالى {..قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}..
اضافةتعليق
التعليقات