من المسلم به بوجه عام أن أسلوب تنشئة الأطفال يختلف من منطقة جغرافية في العالم إلى أخرى. ففي عام 2009 مثلا، أجرت مجموعة من الباحثين متعددي الجنسيات دراسة حول الصفات التي يقول الآباء والأمهات في دول مختلفة من العالم إنهم يرغبون في أن يكتسبها أطفالهم.
وأظهرت الدراسة اختلافات مثيرة للاهتمام، فالهولنديون ركزوا على أن يتحلى الأطفال بـ "السكون والهدوء والنظافة والقدرة على التصرف بشكل دقيق ومنظم ومتسق".
أما الإيطاليون ففضلوا أن يكون أطفالهم معتدلي المزاج وقادرين على الاتصاف بالتوازن، ومحبوبين ممن حولهم. وكان الآباء والأمهات الأمريكيون الذين شملتهم الدراسة أكثر ميلا إلى القول إنهم يريدون أن يكون أطفالهم "أذكياء" أو "متفوقين من الناحية الإدراكية".
وتشير هذه التفضيلات إلى تحول طرأ على الأسلوب الذي يربي به الأمريكيون أبناءهم، مقارنة بما كان عليه الحال في الماضي. ففي الثمانينيات، كان انشغال الوالديْن في أعمالهما يجعلهما يتركان الأطفال وحدهم في المنزل، أو يدفعهما لمنحهم المفاتيح، لكي يتسنى لهم بعد العودة من المدرسة، دخول منزل خاوٍ من الأب والأم، وهو ما أدى إلى إطلاق مصطلح "جيل أطفال المفاتيح" على الأبناء في هذه الحقبة.
وبعد ذلك ظهر جيل آخر، سُمي "جيل أطفال الهليكوبتر"، في إشارة إلى الأطفال، الذين يحوم الآباء والأمهات حولهم، ويبقون بالقرب منهم كالطائرات المروحية طوال الوقت، كناية عن العناية والاهتمام.
أما اليوم فيُطلق على الجيل الحالي من الأطفال الأمريكيين اسم "أطفال الصوبة الزجاجية"، في إشارة إلى حرص آبائهم وأمهاتهم على تعليمهم بوتيرة أسرع ومنحهم قدرا من العلم والمعرفة يفوق مرحلتهم العمرية، وكأنهم نباتات يتعهدونها بالرعاية المكثفة في صوبة زجاجية.
ومع أن نمط التربية في أوروبا كان - تقليديا - أقل صرامة، من ذاك السائد في الولايات المتحدة، فإنه يشهد تغيرات هو الآخر في الوقت الحاضر، في ضوء تبني المزيد من الآباء والأمهات الأوروبيين، أسلوب التنشئة المكثف والصارم الشائع بين نظرائهم الأمريكيين.
وقد يعود ذلك جزئيا إلى الخشية من تزايد التفاوت في المستوى بين الأطفال في أوروبا والولايات المتحدة. كما قد تلعب النصائح التي يُسديها الكثير من الخبراء وتحض على تبني أساليب التربية الأمريكية، دورا كذلك في هذا الصدد. وهنا يمكننا أن نتساءل، هل ستمضي أوروبا دوما على درب الولايات المتحدة في أي مجال تتبوأ فيه الأخيرة الريادة؟ وهل تبدو أساليب التربية والتنشئة التي يتبعها الآباء والأمهات الأمريكيون قابلة للاستمرار بشكل دائم أم لا؟
يقول باتريك إيشيزوكا، أستاذ علم الاجتماع بجامعة واشنطن في مدينة سانت لويس، إن الأسلوب الأمريكي في تربية الأطفال، يوجب على الوالديْن تكريس "قدر كبير من الوقت والمال" مقارنة بأساليب التنشئة الأخرى. ويتطلب هذا الأسلوب تنظيم وقت الأطفال، لتمكينهم من ممارسة أنشطة مختلفة لا ترتبط بمناهجهم الدراسية، والسعي لتلبية احتياجاتهم وإبراز مواهبهم، والدفاع عنها كذلك.
ويضيف إيشيزوكا - الذي درس هذا الأسلوب في التربية تحديدا - أنه يمكن وصف هذه الطريقة في تنشئة الصغار بأنها "النموذج الثقافي المهيمن على صعيد التربية في الولايات المتحدة حاليا".
لكن الأمر لا يقتصر على الآباء والأمهات في الولايات المتحدة وحدها، فأقرانهم في الدول المتقدمة في مختلف أنحاء العالم، باتوا يمضون وقتا أطول مع أطفالهم، بحسب دراسة أجراها علماء أمريكيون وإيطاليون عام 2016. وشملت الدراسة 11 من الدول الغنية في العالم.
وقارن القائمون عليها النتائج التي توصلوا إليها، مع بيانات تعود إلى عام 1965، ليَخْلُصوا إلى أن الوقت الذي تخصصه الأمهات لتربية الأطفال، صار أطول بواقع ساعة يوميا في المتوسط، وأن الآباء أصبحوا يقضون في عام 2012 نحو 59 دقيقة في كل يوم مع أطفالهم، مقارنة بـ 16 فقط في الماضي.
وأشارت الدراسة إلى أنه برغم أن هذا التوجه شمل الآباء والأمهات من مختلف الشرائح الاجتماعية، فإن الميل له كان أكبر بين أولئك الحاصلين على مستوى أكبر من التعليم. وقالت جوديث تريس - وهي من بين المشاركين في إجراء الدراسة - إن البحث أظهر أن الوقت الذي قضاه الوالدان مع أطفالهم، كان ذا أهمية كبيرة فيما يتعلق بتطوير "قدراتهم المعرفية والسلوكية والعلمية".
وأضافت أن هذه التصورات الراسخة الآن في أذهان السكان الأكثر تعليما في الدول الغربية، تنتشر كذلك بين أترابهم الأقل من حيث مستوى التعليم.
بالنسبة لي، أنا أعيش في هولندا، ذلك البلد المعروف تاريخيا بأنه يتبنى أسلوبا أقل صرامة وتشددا فيما يتعلق بتربية الأطفال، كما ورد في كتاب حمل عنوان "الأطفال الأكثر سعادة في العالم"، للمؤلفتيْن رينا ماي أكوستا وميشال هوتشينسون. فقد أشار الكتاب إلى أن الآباء والأمهات في هولندا، يسمحون لأطفالهم بقدر أكبر من الحرية، وأنهم يهتمون بانخراطهم في العمل الجماعي والتعاون فيما بينهم، أكثر من اهتمامهم بما يحققونه على صعيد التحصيل العلمي.
لكن ذلك لا ينفي أن ثمة تغيرات تطرأ على هذا الوضع، فقد بات وقت الأطفال الهولنديين الآن "يحفل بمواعيد وتوقيتات تخص القيام بأنشطة بعينها"، أكثر من ذي قبل بكل تأكيد. وأذكر في هذا الشأن، ما قالته لي سيدة تعمل قابِلة ويزدحم جدولها بالمواعيد، من أنها تشعر بأن كل شيء تفعله مع أطفالها، يجب أن يكون "مذهلا ومدهشا."
ويقول فردريك دي مول، باحث ألماني في جامعة لوكسمبورغ، إنه يمكن للمرء أن يرصد التغيرات التي تطرأ على أسلوب تربية الأطفال في هولندا، في بقاع أخرى من أوروبا كذلك. ويُذكِّرنا دي مول - المهتم بدراسة كيفية تأثير الوضع الاقتصادي على أساليب تنشئة الأطفال - بأن دور الآباء والأمهات في الماضي، كان يقتصر على "التأكد من أن الأطفال يتمتعون بصحة جيدة، وأنهم يتطورون بشكل إيجابي من الناحية العقلية، بينما تتمثل المهمة الرئيسية للمدرسة في الاهتمام بالجانب التعليمي".
أما الآن فقد صار الآباء والأمهات أكثر انخراطا في عملية التعلم الخاصة بأطفالهم، بل "ويحاولون التفاعل والتواصل بشكل أكبر بشأنه مع المعلمين كذلك".
ويرى دي مول أن "تفاقم مشكلة عدم المساواة" من الناحية الاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك أوروبا، يجعل الوالديْن يشعران بأنهما بحاجة لأن يساعدا في عملية تعليم أطفالهما.
ويتفق مع هذه الرؤية، ماثياس ديبكه الباحث المقيم في الولايات المتحدة، الذي شارك في تأليف كتاب "الحب والمال وتربية الأبناء: كيف يفسر الوضع الاقتصادي الطريقة التي نربي بها أطفالنا". ويقول ديبكه: "يعتبر الآباء والأمهات الارتفاع الكبير في مستوى التفاوت الاقتصادي، إشارة لهم تفيد بأن عليهم عدم ترك الأطفال يواجهون الصعوبات وحدهم. وهو ما يجعل البالغين يتبعون أسلوبا مكثفا بشكل أكبر في التربية".
رغم ذلك، يضرب هذا الأسلوب المكثف في تنشئة الأطفال بجذوره في مجتمعات تشتهر بأنظمة الرعاية الاجتماعية السخية التي تستهدف تقليص التفاوت الاقتصادي والفوارق بين المواطنين. فقد كشفت دراسة أُجريت في السويد عام 2016 النقاب عن أن غالبية الآباء والأمهات هناك، يعتقدون أن الأنشطة غير ذات الصلة بالمناهج الدراسية التي ينخرط فيها الأطفال، تساعدهم على اكتساب وتطوير مهارات مفيدة لهم، وأن تسهيل قيام الأبناء بمثل هذه النشاطات، يشكل جزءا من النموذج المثالي للتربية. ويتبنى أبناء الطبقتيْن المتوسطة والعاملة بعض الرؤى المماثلة، رغم وجود استثناءات واختلافات بالطبع.
وإذا انتقلنا إلى آيسلندا، وهي دولة أخرى يتدنى فيها - نسبيا - مستوى التفاوت الاقتصادي بين المواطنين، سنجد أنها تشهد بدورها تزايدا في اللجوء إلى الممارسات المرتبطة بنمط في تنشئة الأبناء، يُعرف باسم "التربية بالارتباط"، وهي فلسفة تربوية، تتضمن أساليب تستهدف تعزيز الارتباط بين الأم ورضيعها، عبر التقارب الجسدي والتلامس المستمر بينهما.
من جهة أخرى، وجدت الدراسة السويدية التي تحدثنا عنها من قبل، أن بعض التوجهات العابرة لحدود الطبقات الاجتماعية، التي يتشاطرها أولياء الأمور بشأن انخراط أبنائهم في أنشطة لا تتصل بالمناهج الدراسية، تفيد بأن رياض الأطفال تلعب دورا في تشكيل وجهات نظر الآباء والأمهات بشأن مسألة تنشئة الأطفال، بما في ذلك تبنيهم لممارسات الأسلوب المكثف في التربية.
وأشارت الدراسة إلى أن "أطفال السويد يقضون معظم أيام الأسبوع في المؤسسات التي تتولى رعاية الأطفال (مثل دور الحضانة وغيرها). ولذا يتعرضون وآباؤهم وأمهاتهم، لقيم ومُثُل تتعلق بالتربية والطفولة، ينقلها لهم المعلمون ذوو المؤهلات التعليمية العليا، من العاملين في رياض الأطفال".
وقالت الدراسة كذلك إن بعض أولياء الأمور المنتمين للطبقة العاملة، ربما يسجلون أسماء أطفالهم في قوائم المشاركين في الأنشطة الإضافية غير ذات الصلة بالدراسة، وذلك حتى لا يُنظر إليهم على أنهم يتبعون نهجا مستهترا في التربية.
ويلفت خبراء آخرون النظر إلى العدد الهائل من الكتب والمدونات والمقالات المتوافرة الآن، التي تتضمن نصائح للآباء والأمهات بشأن أساليب التربية. وتقول ليندا كويرك في هذا الشأن: "عندما تنظر إلى كتب النصائح الموجودة منذ أمد بعيد مثل 'ما الذي تتوقعه حينما تكون بانتظار إنجاب طفل '، ستجد أنها تزداد طولا بمرور الوقت، وهو ما يشير إلى أن النصائح المقدمة للآباء والأمهات على هذا الصعيد في تزايد وانتشار".
وتعتقد هذه الباحثة الكندية أن نصائح الخبراء في هذا الصدد، تؤثر حتى في أولياء الأمور الذين يتشككون في مدى قيمتها. وتوضح ذلك بالقول: "ينظر هؤلاء إلى تلك النصائح ويقولون 'هذا ما يفعله الناس الآخرون إذا في مثل هذه المواقف '. لذا من المهم أن يُنظر إلى نصائح مثل هذه، كجزء من السياق الذي يربي فيه الآباء والأمهات أطفالهم".
لكن اتباع أسلوب التربية المكثف السائد في الولايات المتحدة والآخذ في الانتشار في أوروبا، لا يخلو من مشكلات، تتأثر بها الدول والآباء والأمهات والأطفال أيضا. ومن بينها، تفاقم التفاوت الاقتصادي في المجتمع. ففي الستينيات مثلا؛ عندما كان التركيز أقل على تطوير مهارات الأطفال واهتماماتهم، تساوى أولياء الأمور بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، على صعيد ما يقضونه مع أطفالهم من وقت وما ينفقونه عليهم من مال، حسبما يقول أستاذ علم الاجتماع باتريك إيشيزوكا.
بجانب ذلك، يمكن أن يؤثر اللجوء لهذا الأسلوب في تنشئة الأطفال بشكل سلبي على الوالديْن نفسيهما، خاصة على الأمهات اللواتي لا زلن يتحملن العبء الأكبر فيما يتعلق بالقيام بالأنشطة المرتبطة برعاية الأطفال. وتشير دراسة أجراها ثلاثة باحثين أمريكيين عام 2012 - ويتم الاستشهاد بها كثيرا في الأوساط الأكاديمية - إلى أنه كلما كان أسلوب تربية الأطفال مكثفا بشكل أكبر، كانت الأم أكثر اكتئابا وقلقا.
رغم ذلك، يؤمن الكثير من الآباء والأمهات بأن تبني هذا الأسلوب أمر واجب عليهم. وفي العام الماضي، درس إيشيزوكا التوجهات السائدة بين أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة في الولايات المتحدة، حيال المبادئ والمعايير المرتبطة بالأبوة والأمومة. ووجد الباحث أن الآباء والأمهات "أعربوا عن دعم متشابه بشكل ملحوظ، لاتباع أساليب التربية المكثفة في العديد من المواقف المتنوعة".
وعندما طُرِح على الخاضعين للدراسة سيناريو لتربية طفل، اعتبر هؤلاء أن الآباء والأمهات الذين انتقوا الخيارات المرتبطة بأسلوب التربية المكثف - في إطار هذا السيناريو - شكلوا نماذج مثالية في تنشئة الصغار، ومنحوا من لم يفعلوا ذلك تقييما أقل.
لكن دي مول يرى أنه ربما يتعين على الأوروبيين اتباع أساليب أقل شدة وصرامة في تربيتهم لأبنائهم. ويقول في هذا السياق: "ما من حاجة لأن يخشى المرء من إمكانية أن يتخلف طفله عن ركب أقرانه، ما لم تكن الأسرة كلها في خطر بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية". حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات