القصة الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة تراتيل سجادية/٢٠١٩
في مساء اليوم الشهب تتساقط سريعا، والظلام يذوب في قلب السماء كما تذوب حبات السكر، همسات النجوم تحمل حكاية لكل منا، فكلما اقتربت نجمة من دائرة الظلام سقطت أخرى، تراقب السماء تلك الفتاة ذات الخمار الطويل، تطيل النظر وتحاكي نفسها، هل تريد أن تحلق إلى السماء أم أنها ستكتفي بنظر؟.
تقدمت خطوة نحو الأمام شاخصة عيناها إلى الأعلى تعثرت ولم تبالِ فمازال نظرها مستمرا، هناك نجمة صغيرة يخيفها الظلام تتمسك بأقرب نجمة، تتركها تستغيث، تألمت كثيرا، تحاول أن تنقذها لكن المسافة تمنع ذلك، غارت عيناها بالدموع تذكرت حادثة لم يمض الكثير عليها، أحسّت بشيء يدغدغ ذاكرتها يحاول أن يعيدها إلى ما وراء الأمس، بنسمة هواء ثقيلة أخرجت ما في ذاكرتها، افترشت الأرض وخمارها يعلو التراب.
وضعت كلتا يداها على رأسها وأخذت تندب ذلك اليوم عندما كانت طفلة صغيرة، تعيش في مدينة الحب والأمان تعانق أطياف الشعب خيوط الشمس، حتى جاء الظلام وقتل النهار في عيون المدينة، جاء من يحكم باسم الشريعة وهو لا يعرف من الشريعة غير الجزية وقتل النفس، سقطت مدينتها مذبوحة بيد حكومة يقال عنها الحكومة الاسلامية في الموصل، ولأنها لا تنتمي إلى هذه السلطة الجائرة كان حالها هو البيع أو السجن، في تلك الزنزانة الخاوية الممتلئة بالجثث رمى بها الأمير (عبد الرحمان) الذي كان أمير الولاية، في هذا المكان تعرف أن الموت قريب جدا قد يكون أقرب من حبل الوريد.
مقيدة جسدا لكن روحها كانت حرة، أمر الحارس أن يراقب المكان جيدا، وأن يدعو الأمراء إلى اجتماع طارئ لليلة، صوته كان نكرا جدا، لم تكن وحيدة، هناك الكثير حولها لكنهم صامتون لا تسمع حسيسا لهم ولا نجوى، كانت تظن أنهم نائمون، ولكن أفضت البركة الحمراء مصيرهم.
علمت أنه سوف يقصدها الموت في أي دقيقة، تصارعها الدقائق ويعصرها الوجع، أصوات غير مسموعة من قبل، لغات لا تعرفها شيشانية وأفغانية، وأخرى أجنبية، ترتجف خائفة، جنّ الليل ولم ترَ من أهلها بقية، ضيعت أخبارهم منذ الصباح، غلب عليها النعاس والتعب كان كبيرا عليها فمازال عمرها صغيرا، أغلقت عينيها بهدوء، سرحت في عالم بعيد، برعب وخوف أفاقت على أصوات الرصاص ورائحة البارود تملأ المكان، تهرول أقدامهم نحو مكان ما، تصرخ لكن صوتها كان معدوما، كمن ينادي وهو في رحم أمه، فلا يمكن للصوت أن يسمع مع أزيز الرصاص، قارب الليل على الانتهاء ومازالت المعركة قائمة، مضى الوقت وخرجت أشعة الشمس التي اعتادت على رؤيتها من شرفة غرفتي تخرج الآن وأنا أسيرة، أبحث عن ملجأ ينقذني من شرارة حقدهم، الأجساد تعفنت وأصبحت ذرات من التراب، هدأت أصواتهم عادوا أشباح قلة من بقى منهم على قيد الحياة.
كل شيء انتهى وبقيت جثثهم تلاعبها الكلاب، وهم يتراقصون مع أنغام الأمير، مضت ثلاثة أيام وأنا هنا، افتقد صوت أخي الصغير، وتلك الشقية التي تلاعبني كثيرا، أمي تركتها تندب أبي المضرج بالدماء بعدما اطلقوا عليه الرصاص وهو في ساحة الدار، طافت بي الذكريات وحملني الشوق بجناح حمامة، ومن كثر حزنها وقعت وكسر جناحها، حتى الذكريات مسجونة معي أيضا فلا يمكنها التحليق بعيدا، ثوانٍ معدودةٍ وتموت، تنهدت طويلا وغرقت في البكاء بصوت خافت.
تشاجر الأمراء فيما بينهم، ضرب أحدهم الآخر، كنت أحاول أن أقف لكن ثقل الحديد يمنعني، ضوء من السماء يقترب، ظننت أنها طائرة ستقصف المكان، قرأت ما كنت أحفظ من الشهادة وبعض التراتيل، تغيرت السماء فكانت وردة من الدخان، تتوغل أنفاسي ويرتعش بقية جسدي، انتظر، ولا اعلم ما انتظر، أريد أن أصرخ، لم وحدها تلك القذائف تحق لها الصراخ، أعرف أن صوتي لن يصل.
صوت قريب مني، هل هو الموت أم الحياة؟ كان ملطخا بالدماء وبيده بارودة، طلب من الحارس أن يفتح القيد ويخرجني من هنا: تردد الحارس في طلبه، رفع السلاح بوجهه وقال له: نفذ أمري وإلا قتلتك كما قتلت أميرك.
بيد ترتعش فك تلك الاقفال المغلقة، لم أتمكن من الحركة فأثر القيد وشم على يدي، امسك بي واخرج مسرعاً إلى مقر السيارات الذي كان مخصصا لهم، فسحب المفتاح واشغل المحرك، شاهدت وبينما هو مشغول في السياقة أطلال من الجثث المقطعة، أسلحة، نفايات، ومكان كتب عليه سجن السببيات سجن الروافض، الأمور تسير على غير ما يرام ، كانت تصرفاته تدل على ارتكابه أمر خطير، ليس لدي خيار آخر فأنا هنا أسيرة تباع وتشترى، المسافة التي كان يقطعها بعيدة جدا وبين أعتاب الصحراء.
في الطريق اتصل على شخص كان يدعى الأمير (عزيز) وقصّ عليه ما حصل في المنطقة التي كانت تحت أمرة عبد الرحمان وصوته كان منخفضا، الشيء العجيب إنه لم يقيدني تركني حرة معه، مضينا في الطريق نصف يوم، حتى وصلنا إلى مفترق صحراء قاحلة، وقف وأنزلني بشدة، ثمة ثلاثة أشخاص ينتظرونا ملابسهم سوداء ويرتدون النقاب الأسود، استلم مبلغ من المال بعملة أجنبية.
رمى بي على الارض، حرارة الصحراء كانت قوية جدا حتى أحرقت جسدي، بقيت ليلة كاملة في الصحراء مع هؤلاء، لم اذق طعم الماء او الطعام منذ الامس وكان فتات من الخبز، كانوا ينتظرون سيارة تنقلهم الى مدينة اخرى الاتصالات لم تنقطع لحظة واحدة فكان هناك من يتابع تحركاتهم، كلمة قليلة جدا افهمها وأخرى ألغاز لا اعرف ما المقصود فيها.
الصباح في الصحراء يختلف كثيرا عن المدينة، وصلت الشاحنة التي كانوا ينتظرونها، طلب مني أحد الشيوخ في الأربعين من عمره تقريبا أن ارتدي النقاب الأسود والعباءة الاسلامية وأن أستر يدي وجميع جسدي، فأنا الآن زوجة الشيخ، هكذا قال لي الشيخ، ضربت الأفكار تدور والهموم تحلق في سماء رأسي، أنا أتزوج هذا الشيخ الصعلوك، لكن لا أملك غير القبول وإلا سيقطع رأسي كما فعلوا بغيري، ارتديت الأسود وذهبت مع الشيخ في سيارته الخاصة لفت انتباهي في المقعد الخلفي للسيارة يجلسن أربع نسوة سار بنا نحو الهاوية المسافة التي قطعتها كانت تدل على أنها قرية .
بيوت مشيدة من الطين، أعلام سوداء، حواجز عسكرية، الجميع يحمل السلاح حتى النسوة، هنا بدأت حكايتي مع الشيخ، كان أمير هذه القرية والنسوة اللاتي كن معه زوجاته وأنا آخر العنقود كما وصفت إحدهن حالي، هنا تموت الفراشات مسمومة، كلما نظرت له قلت في نفسي يا له من رجل قبيح، اقتربت مني إحدى زوجاته وهي تتوعد لي أنها ستقلتني إن اقترب مني، ولحسن حظها أنه أمر زوجاته أن يتركوني في حجرة خلف الدار حتى يأتي الشيخ ويعلمني دروس الدولة الاسلامية، وهرول الجنود نحوه متذللين حانين رؤوسهم للأرض، في الحجرة هناك الكثير من الفتيات لأول مرة يتركوني من دون تقييد، كان لدي الكثير من الكلام ما إن دخلت الحجرة حتى رأيت فتاة عليها آثار تعذيب تجلس في زاوية الحجرة.
رف قلبي واسرعت نبضاته صرخت وأجهشت في البكاء، إنها شقيقتي (رواء) آه القدر يجمعنا مرة أخرى، اتجهت نحوها تغيرت ملامحها كثيرا بان عليها المشيب وهي في العقد الثاني من عمرها، صامتة والف كلمة في عينيها، لم تنطق، الأمر انتهى قد ذاقت انواع التعذيب فقط لأن زوجها كان عسكريا وقد قاتل مع الحشد الشعبي، ذلك الشيخ المقرف جاء ليوقع زوجها في الرذيلة لكن كان القرار هو المقاومة، أربعين يوما نحن في عزلة من الراحة والأحلام، وما نعيشه هو كوابيس اليقظة.
كانت الحجرة ضيقة جدا توحي بالرحيل وعلى جدرانها خطت أسماء الفتيات الآتي تعذبن هنا، وعلى طرق شتى منهن على طريقة الذبح.
ظلمة أرواحهم تعكس على وجوههم، فتراها وجوه غابرة، نادوا على شقيقتي وطلب الشيخ أن تحضر، لم تتمكن من الوقوف كانت تجر من شعرها، توسلت أن يتركها لكن ضربني بسوط على يدي، لم تتأخر كثيرا رجعت فاقدة لا تشعر بشيء، نظرت من نافذه الحجرة، يا ليتني مت قبلا ولم أرَ هذا المنظر، كان رأس زوجها معلق في وسط الساحة والدماء تجري منه.
اليوم أثقلت عليها الحياة قتلوا زوجها أمامها، والجسد قطع لحم آدمية ممزقة، ماتت في داخلها رغبة الحياة، لا يكفي بوصف حالها ثمانية وعشرون حرفا تحتاج إلى مئة وخمسون حرفا حتى تكاد أن تصف وجعها المكتوم، تعرضت إلى صدمة نفسية كبيرة وعلى أثرها قطعت الكلام نهائيا، لم تذهب حرمة دم زوجها حتى انجلى ظلام دولتهم في عصر ذلك اليوم حينما بدأت اعصار المعارك تقترب منا وبعدما دخل الجيش العراقي مدينة الموصل حيث فر عدد كبير ممن كانوا مع الشيخ اصبحنا نسمع اصوات دوي انفجارات قريبة جدا مما جعل الوضع متوتر جدا.
اقترب جدا الصوت حتى اهتز المكان وسقطت شظايا في القرية، التكبيرات ارتفعت ونداء الجهاد ولكن لا أحد هنا حتى الشيخ ترك كل شيء واسرع بالفرار مع زوجاته تركنا انا واختي وبعض من السبيات. رائحة الموت تقترب منا كل منا يعوم في ذاكرته يودع احبته.. انقطع الصوت ثمة أقدام تخطو نحونا، نجتمع عند النافذة شقيقتي تتوسد الأرض لا حول لها ولا قوة، لا هذه المرة ليست كما نعتقد اقدام هادئة تبشر بالخير اطمئن قلبي، كسر الحواجز فتحت الأبواب، حشود دخلت ومعها الماء والطعام توزعها.
ملائكة الرحمة هبطت علينا من السماء، انتهى عصر الظلم والاستعباد انقذونا في آخر لحظة، اخرجونا من الحجرة وعالجوا جراحنا، امنو علينا في خيام، ونقلوا شقيقتي رواء بسيارة الاسعاف إلى كربلاء لمعالجتها، استوقفني هذا الموقف من الحشد، رد أحد المتطوعين: نحن تربية الطف، علمنا السجاد أن نعامل الآخر معاملة الأخ، هذا النص احتفظي فيه يا أختاه وتذكري نحن أخوة في الله (وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها، وظهرك الذي تلتجئ إليه، وعزك الذي تعتمد عليه، وقوتك التي تصول بها، فلا تتخذه سلاحاً على معصيته، ولا عدة للظلم بحق الله ولا تدع نصرته على نفسه، ومعونته على عدوه، والحول بينه وبين شياطينه، وتأدية النصيحة إليه، والإقبال عليه في الله، فإن انقاد لربه، وأحسن الإجابة له، وإلا فليكن الله آثر عندك، وأكرم عليك منه...)، انتهى الليل وغابت النجمة الصغيرة التي عادت بها إلى ذاكرة الماضي، أوجعتها الذكريات، وفرحت أنها مازالت تذكر رسالة الامام زين العابدين بعد عام ونصف من الحادثة.
اضافةتعليق
التعليقات