الذي نستلهمهُ من النصوص الروائية الواردة عن آل بيتِ النبوّة أن قضية سيد الشهداء "عليه السلام" لها مظهرٌ وجوهر، وهذان الأمران يجبُ الاهتمام فيهما لأن بنقصٍ أحدهما سيظهر الخللُ جليًا في ادعاء السير على خطى النهضة الحسينية الخالدة ونصرتها.
نشهدُ اليوم تيارًا متصاعدًا من الموجات الفكريّة الحديثة التي تدعو شيئًا فشيئًا لنسيان واندثار منهجيّة الإسلام الأصيل وهدفها الأول هو تسقيط الشعائر الحسينية ومحاولة استبدالها بواجهة حضاريّة فكريّة بحتة _حسب زعمهم_ ونبذُ تلك الممارسات والطقوس الموروثة عن أسلافنا بدعاوى واهية تدلُ على الخلأ الفكري لدى أصحابها.
مؤخرًا وفي السنوات الخمس السابقة تصاعدت حدة الصراع حول مشروعية الشعائر الحسينية ورُفعت المكاتبات والاستفتاءات الشرعيّة حول ذلك، وبالرغم من تضامن المرجعيات الشيعية قديمًا وحديثًا مع فكرِ عاشوراء المتمثل بالعِبرة والعَبرة إلا أن الشبهات ومحاولات التسقيط في ازديادٍ ملحوظ .
والغريب أن البعض راح يُطبل ويزمرُ ويُنظّر لفكرةٍ صدحت في أذنيه تحت مسمى "تهذيب الشعائر" وليت شعري أيهم أحق بالتهذيب؟!
والّذي يدعو لٍلاستغرابِ هو أن هذهِ الدعاوىٰ تروّج مِن قبلِ المؤالِف أكثرَ من المُخالفِ، ونحنُ طفقنا نترقبُ ماذا سيقولهُ الغرب الكافِر تعليقًا علىٰ مُمارساتِنا الشعائريّة، عجبًا ومن هٌم حتىٰ نجعلَ رُؤيتهم ومدىٰ استحسانهم او استقباحهم هو المقياس لمشروعيّة الشعائر من عدمِه؟!.
وهذا إنما يدلُ علىٰ ضُعفِ الهمّة العقائديّة في الوسطِ الشبابي الشيعي المُتطلع كثيرًا إلىٰ المناهج الغربيّة الشاذّة والّتي يجب أن تُفعل تلك الهمة من جديدِ بإشراكهم في المؤسساتِ والهيئات الحُسينيّة.
إنَّ شعار الإِصلاح الّذي رفعهُ الإمام الحُسين يوم عاشوراء كان شعارًا أساسيًا متطلعًا في مجالاتٍ عدة.
وهذا الإِدعاء بالموالاةِ لسيِّدِ الشهداء وإحياء منهجهِ علىٰ مدىٰ الدهور هو نفسه الًذي يدعونا للتشبُثِ بالشعائرِ الحُسَينيّة الّتي أعدت ما أعدت من جيلٍ متهيبٍ صامدٍ يرددُ "ونصرتي لكم معدة" بكُلِّ ثقة.
وإنّما نقول إنَّ الشعائر الحسينيّة هِيَ امتداد لشعائره تعالىٰ كما جاء في مُحكمِ كِتابه الكريم ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:٣٢] فلأن تلك الشعائر والحزن والجزع علىٰ سيِّد الشُهداء هِيَ الّتي تجعلنا حال إقامتها وإحيائها نستذكر تلك المعاني القيّمة والرفيعة الّتي قام بها الإمام الحُسين «صلوات الله عليه» للمُحافظةِ علىٰ الإسلامِ الأصيل وهذا ما يؤيده قوله المشهور: «إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في إمة جدّي» (١).
فشعائره هِيَ شعائر الله وفي سبيلِ نُصرة دين الله، ثم إن إحياء تلك الشعائر والطقوس هو الذي حفظ تلك الثورة الخالدة من الضياع والتزييف ولولا ذلك لاضمحلت وخَبت جذوتها وأنكرها المخالفون كما حاولوا إنكار الكثير، ولكنه الاستثناء الإلهي الذي جعلَ هذهِ العَبرة ملتهبة في أفئدةِ شيعته والّذي أجراه الله تعالى قولًا علىٰ لسانِ نبيه حين خاطبَ ابنته فاطمة «صلوات اللّٰه عليهما» قائلاً: «يا فاطمة! إنّ نساء أُمّتي يبكين علىٰ نساءِ أهل بيتي، ورجالهم يبكون علىٰ رجالِ أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلِّ سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساءِ وأنا أشفع للرجالِ، وكلُّ من بكىٰ منهم علىٰ مصاب الحُسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة» (٢).
بل وحتىٰ الجزع علىٰ سيِّد الشهداء عُد من ضمنِ الشعائر الحسينيًة وذلك ما ورد عن أبي عبد الله الصادِق «صلوات اللّٰه عليه»: «كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء على سيد الشهداء» (٣).
فما هو الجَزع؟!
الجزع لُغة: ما يُحسّ بهِ المرءُ مِن القلقِ والإضطراب وضيق الصَدر أو عدم الصَبر، فنقول (جزعَ الشَّيء) يعني قَطعهُ، ونقول (جزعَ لِمُصابِهِ) يعني لَم يَصبِر علىٰ ما أصابهُ.
الجزع إصطِلاحًا: هو إظهار ما يلحق المصاب مِن المَضضِ والغمِّ، أو حزن يَصرِف الإنسان عمَّا هو بِصددِه ويَقطَعه عنه.
الجزع فِقهًا: يُقسم إلىٰ قِسمين:
١- مكروهٌ: هو ما كانَ لأجلِ أمرٍ عادي أو موت شخصٍ عادي أو لأجلِ منفعة ماديِّة دنيويِّة، أو الّذي يجعل الفرد يخرج عن طاعةِ اللّٰه تعالىٰ فيعترض علىٰ أمرِ وحكمته.
٢- ممدوحٌ: ما كانَ علىٰ الأنبياءِ والأوصياء الّذي يبقىٰ فيهِ الجازع في خطِ الطاعة للهِ ولرسولِه فهو محبوب مطلوب، ولو أدىٰ إلىٰ العمىٰ، واحتمل معهُ الهلاك كما جرىٰ للنبيِّ يعقوب في حُزنِه علىٰ يوسِفٍ «عليهما السّلام» رُغم أنَّهُ لم يُقتل ولَم يمت..!
ويؤيده تقرير الإمام أيضًا كما روي عن مسمع بن عبد الملك كردين البصريّ حينَ سأله أبو عبد الله في رواية مطوّلة جاء فيها:
قال لي _أبو عبد الله الصادق "ع"_: أفما تذكر ما صنع به -أي الإمام الحسين-؟
قلتُ: نعم، قال "عليه السلام": فتجزع؟، قلت: إي والله وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك علي فأمتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي، فقال: رحم الله دمعتك، أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا آمنا.... قال: ثم اِستعبر واِستعبرت معه، فقال: الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالرحمة»(٤).
وكذلك ما روي عنه عليه السلام في موثقة سدير أنه قال: «... وعلى مثل الحسين "عليه السلام" فلتُشق الجيوب ولُتطلم الخدود» (٥).
وعِدّة مِن الفُقهاءِ كالشيخ كاشِف الغِطاء -قدس سِره- والسيِّدين صادِق الروحاني وصادِق الشيرازي -دامَ ظِلهما- نقلوا نفس الروايَة بزيادةٍ وهِيَ «ولتُخمش الوجوه» (٦).
-الخَمْشُ: اسم لِجرح البشرة، أي جرح الوجه بالأظافر فيُصاحِبهُ خروج الدم.
وتتأكد الدلالة في أمرِ الإمام بأنّه جاء الأمر بصيغة المضارع وإضافة لذلك فقد اتصلت به لام الأمر، وهذا يدل علىٰ التأكيد في أمره صلوات الله عليه. وتلك من المستثنيات في عزاء الإمام الحسين "ع" التي خصصت له دون من سواه.
يقول السيِّد الخوئي"ره": (نعم استثنىٰ الأصحاب من حرمةِ تلك الأُمور: الإتيان بها في حقّ الأئمّة والحسين"عليهم السلام" مستندين فيه إلى ما فعلته الفاطميات على الحسين بن عليّ، من لطم الخد وشقّ الجيب, كما ورد في رواية خالد بن سدير» (٧).
فإذن صور إحياء الشعائِر من لطمٍ وبُكاءٍ وصُراخٍ وعويلٍ ومواكِبٍ وزِنجيلٍ وتطبير..إلخ هي من صورِ الشعائِر المُقدسّة، وهِيَ تفريط لا إفراطٌ أبدًا، فقد ورد في زيارةِ عاشوراء «لقد عظُمت الرزيّة وجلت المُصيبة بِك علينا وعلىٰ جميعِ أهل الإسلام وجلت وعظُمت مُصيبتك في السماواتِ علىٰ جميعِ أهل السماوات»..! (٨).
وما يذكره مولانا وإمامُنا صاحب العصر والزمان "عج" مما يختصر كُلّ معاني الجزع بِقولهِ في زيارة الناحية المقدسة: «فلأندبنَّك صباحاً ومساءً ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً حسرةً عليك وتأسفاً على ما دهاك وتلهفاً حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الإكتئاب»(٩).
فأيَّ مُصيبة تِلك، وأيَّ جزع هذا؟!.
وهل يجري القياس؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اضافةتعليق
التعليقات