كعادته كان لا يكاد ان يرى من بين اكوام الورق الماثلة امامه، يعمل في مكتبه منذ خمسة عشر عاماً، كان يعتقد سالم بأن مكتبه يحزن في اليوم الذي لاتلامس كفه ادراجه.... لم يكن يخطر في باله ان يأتي زمن يبتعد فيه عن تلك الغرفة الصغيرة التي كان يرى من خلالها احلام الكثیرین على الورق بعضها کان یتحقق والاخر يكون نصیبه النسيان، فقد كان عمله يقتصر على تسلم طلب الزمالات والبعثات خارج القطر، يقلب اوراق الطلب ان كانت كاملة يرفعها للجهات المختصة بالامر وان كان فيها نقص او الشخص المتقدم غير مستوفي الشروط، يتم ردها لأصحابها.
عرض عليه صديق له ذات يوم تلك الفكرة (لماذا ياسالم لم تخطر لك منذ زمن) قالها سالم في نفسه وهو يهم بتسليم (فايله) هو شخصيا، شعر بالمرارة لفراق حجرته الصغیرة ولکن طلبه قد تم قبوله ولم یتبق على سفرته الدراسیة لامریکا سوى ايام يودع فيها ادراج مكتبه ويتوجه لوداع امه العجوز التي كانت تدعو له دعاء ممزوج بدموعها لفراقه.
فراق لن یدوم سوی عامین ولکن الم الرحیل موجع، اما ابو سالم لم يشكل عنده رحيل سالم شئ يذكر فقد تدهورت صحته منذ اعوام وكان سالم هو من يتفقد علاجه، اوصى اخاه أيمن وهو يحتضنه بان يرعى امه في غيابه ولاينسى علاج الشيخ الكبير، وعده ايمن وطمأنه بأنه سيكون اکثر تحملا للمسؤولية بعده، رشت امه من خلفه ابریق ماء كي يرجع لها سالم سالماً حسب رأيها.
لم تكن رحلته بالهينة، الطريق طويل والاجراءات حازمة، ما ان وصل المطار حتى استقل سيارة للسكن الجامعي، بعد وصوله للمحل المقرر اقامته فيه احس بالم الغربة يملأ كل كيانه لم يرغب بتناول شيء، فضل النوم والراحة على ان يستيقظ في الصباح الباكر ليباشر بقية اجراءات الجامعة.
في صباح يومه التالي اخذ اوراقه الرسمية على عجل وذهب لعمادة الكلية، لم يكن يعرف المكان بالضبط فكان من السهل على من يرى سالم ان يخمن انه تائه في ارجاء هذه البناية العملاقة....
بادره صوت انثوي بلهجة عربية (هل تحتاج الى شئ يا اخي؟)،
لم يخف سالم فرحته بوجود من يتكلم بلغته الام، بادرها بالسؤال :
- عفواً اين عمادة الجامعة، لدي اجراءات بعثة دراسية يجب اكمالها بأسرع وقت ممكن.
اجابته بان وجهتهم واحدة وان بامكانه مرافقتها..
كان يمشي بتردد، لم يكن معتادا على مثل هذه الاجواء..
بادرته بالسؤال بقولها:هل انت مسلم؟
کان مستغرباً سؤالها وكيف خمنت انه مسلم، ماهو الشيء المميز فيه والذي دلها على اسلامه.
اجابها : نعم مسلم واسمي سالم اليس ذلك جميلاً..
اجابته بهدوء : نعم انه لجمیل حقا.
قال سالم: وماهو اسمك؟
قالت: اسمي هو كاترين ابي مسلم وامي مسيحية، اعرف عن الديانتين الشيئ الكثير لكني فضلت اعتناق المسيحية لان اغلب حياتي كانت مع والدتي بعد انفصالها عن ابي.
حين وصولهما افترق كل منهما عن الاخر شكرها سالم على امل اللقاء بها مجدداً.
اكمل اجراءاته المعتادة وقرر الرجوع لغرفته من البقاء في فناء الجامعة فهو يشعر هنالك بغربة مضاعفة.
في صباح اليوم التالي خرج سالم من سكن الكلية كي يباشر دراسته الاكاديمية وما ان استقل المصعد حتى ظهرت له كاترين ثانية، رحب كل منهما بالاخر وتبين ان كاترين تقيم معه في نفس السكن لبعد الولاية التي تمكث فيها امها.
كان سالم حريصاً على ان لايتعدى حدود الدين ولا يضع المبررات كاغلب الشباب المسافرين لبلاد اجنبية تبرر لهم انحلالهم وعدم التزامهم بالدين.
دعته كاترين لشرب القهوة في غرفتها اعتذر سالم قائلاً: تعاليم الإسلام لاتسمح ان نكون انا وانت منفردين في مكان خال.
استغربت كاترين قوله فلم يكن سالم يشبه اباها في شيئ، كان منفتحا ولاتذكر ان الاسلام قد منعه من شيئ.
لاحظ استغرابها فبادرها بالسؤال، مابكِ ياكاترين الم تقولي انك تعرفين عن الإسلام الشيئ الكثير؟
تأتأت كاترين: نعم اعرفه ولكن عن طريق ابي وبعض كتيبات صغيرة كانت في مكتبه تحمل اسم جدي...
اعرف اعياد المسلمين المهمة وحجاب المسلمة وصلاتها ووو...
قاطعها سالم جيد ان كنت تعرفين اعياد المسلمين فما اسم العيد الذي يصادف ذكراه غداً.
_قلت لك ياسالم اني لم اعد اعيش مع والدي ومع ذلك اجيبك اما عيد الفطر او عيد الاضحى.
ابتسم سالم وقال: لا هذا ولا ذاك ياكاترين انه عيد الغدير.
استغربت كاترين لسماعها اسم ذلك العيد وقالت:
_هل يمكن ان تحدثني عن هذا العيد ياسالم فلم اسمعه من ابي ولم اقرأه في كتبه.
_نعم بكل سرور ياكاترين..
في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من العام العاشر من الهجرة وعلى مشهد من عشرات الآلاف من المسلمين، ارتقى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم منبراً مصنوعا من اقتاب الابل واخذ بكف امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ليقول: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) هذا هو ملخص حادثة الغدير.
_ولم اصبحت هذه الحادثة عيدا، تساءلت كاترين.
اجابها سالم: ان الله منّ على المسلمين بأن عرفهم من هو الذي يتولى بعد الرسول امورهم كي لا يدع مجال للشك او الحيرة تتسلل الى نفوسهم.
_وماذا فعل المسلمون انذاك.
قام المسلمون بمبايعة علي (عليه السلام) خليفة من بعد النبي وهنئه الكثيرين على هذا الشرف والتنصيب الالهي، لكن بمرور الزمن انكر بعضهم تلك الحادثة لضعف نفوسهم وتشبثهم بالدنيا.
هل تصدقين ياكاترين ان عالما من علمائنا اسمه العلامة الاميني افنى اربعين عاماً من عمره وهو يؤلف كتابا حول حادثة الغدير؟!
اتسعت عينا كاترين وقالت: اربعون عاماً ياسالم هل ذلك يعقل، ولكن لماذا؟
_كما قلت لك ياكاترين ان واقعة الغدير لم تكن مجرد حادثة انما هي منهج للحياة فمن
يغوص باعماق تلك الحادثة يستخرج نفائسها ومن يجعل علي (ع) اميره سيتغير واقعه ويتغير نهجه في الحياة.
اومأت كاترين برأسها وكأنها تعترف بأنها لمست يوم الغدير وتأثيره بسلوك سالم وتصرفاته.
_عدني ياسالم ان تكلمني عن الإسلام فقد تراجعت عن قولي باني اعرف الكثير، قالت كاترين ولوحت له بيدها، فوقت المحاضرة قد بدأ ولابد لها من الانصراف.
اضافةتعليق
التعليقات