في هدوء الفجر الذي يكسر الأذان، صمت ليله الحزين لذلك البيت الكبير، تصحو والدتي بخطى ثقيلة اتعبت ساقيها حياة شاقة، وأيام حبلى لم تتمخض سوى بآلام ومآسي الحروب، وعيون مطفأة الانوار بكت حتى أبيضت عيناها من فقد فلذات كبدها أولادها الأربعة.
أثقلتها الهموم والأحزان بسبب مآسي البلد الجريح -وطن عصفت فيه ريح الحروب والحصار والطائفية، أخذت منه عناصر البغي كل ماهو جميل وسرق من كل النساء الأمل وأبتسامتهن العفوية بسبب فقدها الزوج والاخ والابن- بالإضافة الى ألم وحرقة الفراق، إن الرجل هو المعيل للعائلة، وفي الأغلب عند استشهاده في تلك الحروب يترك خلفه مسؤولية تربية الاولاد على عاتقها.
بعد استشهاد اخوتي الأربعة تغير حال بيتنا من حال الى حال سيطر علينا الحزن.. وأخذت الكآبة تنهش حتى جدران المنزل.
اصبحت انا المسؤولة عن أمي بعد ان استشهدوا اخوتي ووفاة أبي، وفي كل يوم كان علي النهوض باكراً، عندما أسمع خطوات امي وهي تتهيأ لصلاة الفجر، كنت أصحو خلسةً واتهيأ للصلاة.. واُراقبها من بعيد، حرصاً على مشاعرها لأنها لاتريد أن ارى دمعتها ونحيبها لفقدهم لأنها تحب الخلوة مع رب العالمين وكانت تطلب من الله الِلحاق بهم.
وكنت أُراقبها بصمت هاهي قد أكملت الصلاة -وهي تبدأ بدعواتها.. ولكن هذا اليوم تبدو مختلفة، انها تبتسم وتتحدث وترفع يدها كأنها تحدث أنسيأً! ماذا حدث سأقترب منها، انها ضريرة لن تراني وبدأ صمتها الحزين يبزغُ بأبتسامة تارة تظهر على ملامحها وتارة تختفي وتتحدث اليه او اليها لاأعلم ولكني على يقين أمي ليست بمجنونة.. ثم تمالكت نفسي وبدأت بوادر الخوف، والقلق تبتعد عني اريد ان أعرف.. ماذا تقول (امي عيوني حمودي كليبي، مصطفى الصغير فدوه جاييني شوفوني وحشتوني عيوني يمه تشتمون ريحتي يمه وليدي يمه جايين تشوفيني).
انها تتحدث مع اخوتي الشهداء وتستذكرهم..
ماهذا كأننا في فلم من أفلام الأرواح ثم قطع هواجس أفكاري نهوض أمي الرشيق لأنها عندما كانت تنهض تتستند بيديها الضعيفتين على الأرض وتأخذ وقت ليس بالقصير للنهوض!.
انها مازلت تتحدث ولكن الى من يا ترى! ثم توجهت امي الى أحد غرف اخوتي الشهداء الاربعة، تسبقها فراشة وهي تحادثها مبتسمة، امي تتحدث الى فراشة يا إلهي هل فقدت امي عقلها: فاقتربت منها بصمت ليتسنى لي الأستماع وكانت الفراشة كأنها تُناغيها تارة تحط على حجابها وتارة على يدها وكأنها تنظر اليها قطع تعجبي هذا كلام امي وهي تقول (يمه حمودي هذه غرفتك واغراضك العزيزه لم ادع احد يتلاعب بها).
كأنها تراه امامها، ثم غادرت وهي تردد: حبيب ينسى حبيبه.
ثم ذهبت تتخطى للغرفة المجاورة وكانت لأخي عادل وكانت الفراشة تتقدمها للذهاب للغرف كأنها تعرفها، فتحت أمي باب الغرفة وتقول يمه عادل أعذرني أنني مريضة ولم أذهب لأرى ابنك المريض لاتقلق الله حافظهم اولاد الشهيد حبيبي لاتخاف الله معنا وليدي حبيبي.
وغادرت امي غرفة عادل مستذكرة ايام طفولتهم حيث كانت ليلا تأتي لتغطيهم واحداً تلو الآخر.
ثم اخذت الفراشة ترتفع وترفرف بجناحيها كأنها مشتاقة الى ذلك الباب _باب غرفة أخي علي_ وما أن فتح باب الغرفة سبقت الفراشة والدتي بالدخول الى غرفة اخي علي كانت امي تسميه "الوسطاني" أخذت امي ترد ابيات حزينة وهي تمسح الجوائز والمداليات الذهبية الرياضية التي فاز بها في المباريات - اذ كان علي عداءً..
وكانت تنعي وتقول:
دنيـــاه تابـووت وروحي فيـه مدفونـه
أدور المووت ومـاأقـوى أعيـش من دونــه.
ثم خرجت وأغلقت الباب، ثم توجهت امي نحو غرفة أخي الصغير مصطفى، اسرعت اليها لأقطع طريقها في الذهاب الى تلك الغرفة.. مصطفى الذي كانت تطلق عليه "آخر العنقود" خوفاً عليها واذا بالفراشة تقترب مني، لقد وقفت على رأسي ثم على كتفي رفعت يدي لكي أبعدها عني واذ بها تقف على كفي كأنها تقول لي دعيها تفتح ذلك باب؟ دخلت أمي غرفة مصطفى هي وسبقتها الفراشة وانا اراقبها بأستغراب؟ واخذ مني حنيني وشوقي لأخي الصغير وضحكته ومزاحه معي مأخذ.
اشتقت انا قبلها لدخول غرفته حيث كان اقرب لي عمرا ثم توجهت أمي الى خزانة الملابس وهي تقول: (يمه مصطفى مامشتاقلي)، واخذت دموعها تنهمر والفراشة ترفرف حول أمي حتى استشعرت بوجود مصطفى معنا في الغرفة وبدأت تقترب ثانيةً قرب ثغرها ثم وقفت على كفها كأنها تتحدث.
وبدأت امي تحدثها: يمه مصطفى، هذه بدلة العرس والغرفة كما هي ولكن انت غير موجود ألم تشتق الى امك، وأخذت تحضن وتشم تلك البدلة حتى سقطت مغشياً عليها، احتنضنتها وانا اقول بصوت خافت ومخنوق: امي هل فارقت الحياة! امي ردي امي هل قتلك الأشتياق، رفعت رأسي نحو السماء واذا بالفراشة حطت على ثغرها الباسم واخذت اصرخ واقول محمد، علي، عادل، مصطفى انتم هنا معي هي ارواحكم اذن كانت تحادث أمي.. استقبلوها يااخواتي يااعزائي لطالما حلمت أمكم بهذا اللقاء.
اضافةتعليق
التعليقات