كان يرى كل شيء حوله من منظوره الخاص فهو يتمتع بالفطنة والذكاء، يَفهم الامور جيداً ويثابر على ان يتعلم المزيد كلما سنحت له الفُرص، يسترق النظر الى الكتب والاوراق المتناثرة في كل مكان يخاف الامساك بالقلم لئلا يصرخون في وجهه ويصرفونه من امامهم، يَنصت اليهم بامعان ويتمنى ان يجد فيهم مشاعر الحب تجاهه او الحصول منهم على نظرة عطف او شفقة حتى..!
يشكوا بصمت من ألم وحرمان والحسرة تجتاحه بين الفينة والأخرى كالشَرقة التي تأخذ بروح صاحبها الى الموت ثم تُعيده للحياة، يتلقى قساوتهم الحادة وكلماتهم الجارحة كالمسمار الذي يضرب بالمطرقة كلما ظهر من مكانه.
ورغم كل ما يعانيه الا انه يملك كماً من البراءة والطيبة والمحبة تجاه كل شخص من افراد العائلة الكبيرة ، ينظر لأخويه واولاد اعمامه بحب ومودة، يستمع لاصواتهم وهي تتعالى بالضحك واللعب والغناء ويبتسم حين تقترب ثم تبتعد خطواتهم الراكضة ذهاباً واياباً، يتمنى الخروج معهم والاستمتاع مثلهم ولكن قدره ابى ان يمنَحهُ هذه السعادة التي يحق للجميع امتلاكها، ذاك القَدر الذي تسبب فيه والداه عندما اهملاه وهو صغير بسبب الخلافات التي بينهما، ليَقع ضحية البغض والضغينة ويُصاب بشلل الاطفال وعلاوة على ذلك بطئ واضطراب في النطق.
ورغم كل ذلك كان يستطيع الاهتمام بنفسه ولا يحتاج سوى لمن يفهمه وينتظره حتى ينهي الكلام الذي يود قوله والشعور بالاهتمام لأمره ولو قليلاً، وكلما كَبُرَ كلما ازداد حزنه وقهره في مواجهة الاعاقة الفكرية والانسانية لدى المحيط الذي نشأ فيه أكثر من مواجهته اعاقَتَهُ الجسدية ..
وأصعب ما كان يثير بؤسه وشجونه هو حال أُمَهُ التي كلما واجهته مشكلة ما نَظرت اليه ونَدَبت حظها وتَمتَمت بكلمات الاسى والغَم حيث لا ينتهي النزاع والخصام المستمر مع ذلك الاب الذي تنعته بالمعتوه.
الى ان أتى اليوم الذي طفح فيه الكيل ليَصرخ في وجهها عالياً ويَرمي عليها يَمين الطلاق بالثلاثة ولا رجعة تؤمل حيث قال لها وبكل فظاظة: هيا اخرجي من هنا وعودي الى البيت الذي اتيت بك منه، ولن تأخذي معك سوى ولدك المعاق ذاك، ولن تعودي الى هنا ابداً ولا بأحلامك حتى..
وما كان عليها سوى الامتثال لما صَدر منه، اسرعت لتُوَضِب نفسها وخرجت برفقَة إبنها العليل وهي تَجرُ اذيال الخيبة و الانكسار، وأخذ منها القلق والخوف مأخذ المنهزم الذي لا يدري الى اي حال ستؤول اليه الامور فيما بعد..
وصلت الى دار والدها، نظرت الى باب الدار كان مفتوحا، دلفت مع وَلدها الى الداخل والقت التحية على الموجودين فاستقبلتها زوجة ابيها بوجه عابس وكلمات لا تُنَمي عن التَرحيب وبَعد ان عَلِمت سبب زيارتها المفاجئة قالت لها بشكل صريح: عليكِ انتظار ابيكِ ريثما يعود لنتشاور في أمر بقائك هنا، أما وَلدك المعاق هذا فعليك ان تجدي له مكانا يأويه ويتكفل برعايته إن كُنتِ تَودين المُكوث معنا...
كان يَنظر الى أُمه وعيناه قد اغرَورَقت بالدموع رآها وهي تُنكس برأسها نحو الارض وتومئ بالرفض وعدم القبول بما وُجِهَ إليها من الكلام وقد تساقطت دموعها كالمطر النازل من سحابة مثقلة فليس بإستطاعتها احتوائه بعد الآن ..
انحنت لتجعله يَستَندُ عليها وهَمت بالخروج وهي تقول: شكرا لكِ، سأذهب الى اخي إبن أُمي الوحيد عَلني أجده في منزله فقد إشتقتُ اليه كثيراً، من الممكن ان أعود لزيارتكم لاحقاً اوصلي سلامي لأبي، استودعكم الله ..
إتجهت الى منزل أخيها وعندما نزلا أمام باب المنزل أجلست وَلدَها المعاق على الارض وتَوقَفت لبُرهة ورَفعَت يَديها نحو السماء لِتدعو الله عسى ان يَمُنَ عليها بكرمه ولُطفه بأن يُنزل الرَحمةَ على قَلب أخيها كي يستقبلها في منزله ولا يطلب منها التخلي عن إبنها البريء المسكين، فما ذنبه هو يا ترى؟!
ثم عادت لتُسنِد إبنها الذي لم يبقَ لها سواه، وطَرقت باب المنزل بِقَلبٍ خافق مُنكسر تَرجوه المقاومة لعل الله يُحدث أمراً..
فَتحت لها زوجة اخيها الباب واستقبلتها مُتفاجئة مُتحيرة، وهي تتسائل ما الذي اتى بهذه الاخت مع ابنها المعاق في هذا الوقت!، فقد إستقبلت قبل قليل اهلها وبعض من اقربائها ..
رحبت بهم بشكل سريع ومُرتبك فقد كان مظهرهم المتعب والبائس هي وابنها المعاق بحالة يرثى لها، فارتأت ان تخبرها بوجود ضيوف، وستخبر اخيها عن حضورها فور الانتهاء من استقبالهم الضيوف وتوديعهم، وطلبت منها الدخول الى الغرفة المُنعزلة في نهاية الرواق التي كانت بمثابة مشغل قديم اعده اخيها لممارسة (الرَسم) هوايته المفضلة، ادخلتهم الى هناك واغلقت الباب وذهبت، كان المشغل يَعج باللوحات المُتراكمة والفِّرش والالوان المبعثرة، يوجد كُرسي وامامه لوحة قد عُلقت وتُركت فارغة من الالوان، وفِراشٍ قديم على الارض ولكن لا بأس به فقد كانت الام مُرهقة جدا وبعيون اتعبها تسربل الدموع الحارقة، أجلست الإبن المعاق على ذلك الكُرسي دون ان تنتبه لأي شيء ورَمت بجسدها المنهك على الفِراش واستلسمت للنوم..
بينما لمعت عيناه وهو ينظر الى المكان واللوحة، ودون شعور او تردد امسَك بالفرشاة والالوان وبلا خوف أخذ يَرسُم ويَرسُم وكأنه سافر الى عالم آخر، حتى انتهى من رسم ثلاث لوحات وعمل على تَرتيب المَشغل وتنظيفه بِحَذر لكي لا يزعج والدته المسكينة، وما ان انتهى نَظر الى المكان من حوله نظرة تَمَني وأمل، ها قد عاش لحظات من السعادة التي لا تُوصف ولم يَكُن يَحلم بالحصول عليها حتى!.
وما لبث لدقائق حتى استحوذ عليه التعب فاستسلم هو الآخر للنوم..
وفي هذا الوقت انتهت زيارة الضيوف بالانصراف، فأسرعت الزوجة لتحدث زوجها بنفور عن قدوم اخته وابنها المعاق دون سابق إعلام، و بَررت له موقفها لاستقبالهم في مشغل الرسم..
انزعج من الامر وذهب ليطرق الباب عليهم ويفهم الموضوع، استيقضت الاخت بفزع واسرعت لفتح الباب واما ان رأته رَمت نفسها باحضانه واطلقت العنان لعبراتها التي تكسرت في صدرها واخنقتها فلم تعد تحتمل الكتمان، فقد شارفت حياتها على نهاية مجهولة تخاف ان تصيبها بالجنون، وأخذت تشرح له ما حدث من البداية، وكيف لها ان تتخلى عن ابنها المستضعف، وجزمت بأنها لن تجرؤ على فعل ذلك، بينما كانت تواصل الحديث والشكوى كان الأخ يعيرها سَمعه ولكن نظرهُ مُنشغل، حيث انتبه لوجود ثلاث لوحات قد رُسمت حديثاً بطريقة إحترافية تستقطب الانظار وتجذب الاهتمام، والمشغل مرتب ونظيف بصورة رائعة!.
آلمه حالَها ونَظر اليها بحزن وعطف ثم قال: اختي العزيزة، إجلسي الآن واسترخي قليلاً ولا تهتمي لشيء ستُحل الامور بأذن الله، ولكن أوَدُ ان اسأل: من الذي قام برَسم هذه اللوحات البديعة، وترتيب المكان بهذا الشكل الجميل؟!
استغربت سؤاله ونظرت من حولها لتَنبَهِر بنظافة المكان وجمال اللوحات التي رُسمَت بحرفية ودقة عالية وكأنها مناظر حقيقية! ومن الذي قام بالعمل ومتى حدث كل ذلك؟! حتى أدركه الأَخُ وأشار بكلتا يديه نَحو إبنها النائم بشكل عفوي وقد اتسخت ثيابه ويداه بالالوان والاتربة وهو لا يزال يُمسك بفرشاة الرسم، حيث كان يَغط في سبات عميق وكأنه لم يَنَّم مُنذ وقت طويل.
بَدت السعادة على ملامح وجهه الجميل وكأنه ملاك سقط من السماء، فَتبين لهما من الفاعل! وَقَفت الأُم مصدومة مُتَعجبَة، أما الأخ فقد ابتسم ابتسامة ذُهول عَريضة وحَمل اللوحات الثلاثة ونادى على زوجته وقال لها: خُذي أُختي وابنها الى غرفة الضيوف واعتني بهما جيداً وقومي بالواجب على اكمل وجه سأعود بعد نصف ساعة من الآن ..
أيقَضت الأُم إبنها ليفتح عَينيه على ابتسامة وجه أُمه التي لم يرَ مثلها من قَبل وهي تنظر اليه بعطف وحنان لم يسبق له أَن شعر به اطلاقاً، غمرته السعادة الوافرة حيث استمتعوا بخدمة زوجة الأخ التي قَدمت لهما ما لَذ وطاب من الطعام ووسائل الراحة ..
مَّر الوقت مسرعاً واذا به قد اتى وهو يحمل بيده كيساً مملوءا بالنقود والفرحة بادية على محياه، رَحَب بهما وقال مستبشراً: اهلاً وسهلاً بكما في منزلي، سأُخصص لكم غرفةٌ في الطابق العِلوي وأخرى بجانبها سأحولها الى مشغل للرسم ليقضي وقته فيه إبنك البطل الموهوب هذا، ومَد يَده لمصافحة الإبن المعاق وقبّلهُ بعَطف ومحبة..
إتسعت حدقة عينيه وهو لا يُصَدق ما سَمِعه من هذا الخال اللطيف، ولم تسعه الفرحة العظيمة فسالت دموعه ليحتضن والدته التي نَظَرت اليه بكل فَخر وحُب ولأول مَرة في حياتها وقالت لهُ: اللطيف اعطاني اياك!.
اضافةتعليق
التعليقات