حين أفكّر بالطفولة، أتصوّر النقاء والبراءة، الأحلام البسيطة، والسعادة الممكنة، والحياة الهانئة التي لا يكدر صفوها شيء. أستطيع أن ألخص الطفولة بكلمات إحدى شارات الكرتون التي تقول: "ما أجمل الطفولة وصحبة الدراسة وأيام الشباب، كلها سعيدة، كلها سعيدة."
بالطبع، ليست كلها سعيدة، لكني واثقة أن أيام الطفولة كانت سعيدة... أو هذا ما كنت أعتقده.
هذا الكرتون لم أشاهده وأنا طفلة، لكني فعلت ذلك بعد أن كبرت، ولم يُعجبني منه سوى شارة البداية والرسائل التي كانت تبعث بها البطلة إلى أخيها.
وانطلاقًا من طفولتي، التي يستحيل عليّ أن أصفها بالسعيدة، والتي تزخر بالذكريات الأليمة أحيانًا والسعيدة أحيانًا أخرى، قررت إجراء استطلاع لآراء من أعرفهم ومن لا أعرفهم، لأتمكن من معرفة إن كانت أيام الطفولة "كلها سعيدة، كلها سعيدة" كما تقول الأغنية، أم لا.
استطلاع الآراء العامة:
كان مجموع الأسئلة التي طرحتها في الاستطلاع 10 أسئلة، تضمنت الآتي:
_ أولًا/ لو التقيت بنفسك وأنت طفل، ماذا كنت ستفعل لها؟
نسبة ٩٩٪ من الإجابات كانت إيجابية. الأغلبية أجابوا بأنهم سيحتضنونها، البعض أجاب بأنه سيقبّلها أو يشتري لها ما تريده. شخص واحد فقط أجاب بأنه لا يرغب بلقائها.
واستنادًا إلى هذه الإجابات، نستطيع أن نفهم حاجة الطفل الملحّة إلى العناق والاحتضان من قبل والديه؛ فالرغبة الشديدة لدى الكبار في احتضان أنفسهم وتقبيلها ما هي إلا تعبير عن افتقادهم للمسة الحنونة والحضن الدافئ حين كانوا أطفالًا.
_ ثانيًا/ هل رغبت يومًا بأن تعود طفلًا؟ ولماذا؟
جاءت الإجابات متنوعة:
٥٠٪ رغبوا بالعودة إلى ربوع الطفولة، لرغبتهم بامتلاك قلوب الأطفال الصافية التي لا تحمل همًا، فحين تكون طفلًا حتى وإن تعرضت لمكروه، فإنك تنساه بسرعة، إذ يعيش الأطفال يومهم فقط.
أما الـ٥٠٪ الأخرى، فقد أعربوا عن عدم رغبتهم بالعودة لتلك الأيام لما عانوه فيها، فحتى ذاكرة الطفل السريعة النسيان لم تمحُ الذكريات المؤلمة، وقلب الطفل الصافي الذي لا يحمل همًا، حمل الهموم طيلة هذه السنوات دون أن ينساها.
_ ثالثًا/ ما هو الأثر البالغ الذي تركته طفولتك عليك؟
كانت نسبة من ذكروا الآثار السلبية لطفولتهم ٩٠٪، وهي نسبة كبيرة. تراوحت بين التعرض للتحرش أو للضرب.
أكد السيد "ج." (٢٥ سنة، طالب بكلية الآداب) أنه تعرض للتعنيف والضرب المبرح من قِبل جده وأبيه، ما جعله يتعلم الألفاظ النابية في صغره، وأصبح عصبيًّا وكثير الشتم حين كبر.
الآنسة "ن.ص" (٤٠ عامًا، بكالوريوس علوم) أعربت عن الأثر البالغ للتحرش وفقدان والدها، وقالت إنها تعتقد أن لو لم تكن يتيمة، ربما لم تكن لتتعرض لكل هذا الأذى.
السيد حسن (٣٣ عامًا، طالب في كلية الصيدلة) قال إن الحرب تركت فيه أثرًا بالغًا بعد فقدانه لأخيه، كما أنه تعرض لمحاولة تحرش، وتعنيف من أساتذته.
الآنسة "ف.س" (٢٣ عامًا، طالبة في كلية الآداب) قالت إنها عاشت أمورًا سيئة جعلتها غير راغبة بالزواج وتكره الرجال.
نسبة ١٠٪ فقط قالوا إن لطفولتهم أثر إيجابي على حياتهم.
_ رابعًا/ إذا استيقظت ووجدت نفسك قد عدت طفلًا، هل ستسعد بذلك؟ ولماذا؟
٧٠٪ أجابوا بأنهم سيسعدون، اعتقادًا منهم أنهم سيعودون إلى مرحلة القلب الصافي والبال المرتاح.
٣٠٪ ذكروا أنهم لن يسعدوا.
١٠٪ منهم قالوا إنهم لم يكونوا سعداء أصلًا في طفولتهم، وامتنعوا عن ذكر السبب.
٢٠٪ قالوا إنهم سعداء الآن، ولا يرغبون بالعودة.
_ خامسًا/ ما هو أفضل شيء حصل لك في طفولتك؟
٩٩٪ ذكروا أشياء جميلة. شخص واحد فقط قال إنه لا يذكر شيئًا جيدًا في طفولته.
السيدة سولافة الأسعد (٥٧ عامًا، تدريسية وأديبة): "كلها جميلة من ألفها إلى يائها، والأجمل القراءة التي أُغرمت بها."
السيد رعد الشويلي (طالب دراسات عليا): "حصولي على دراجة هوائية."
الآنسة "ن.م" (٢٢ عامًا، طالبة علوم): "تعرفت على صديقة عمري آمنة، وهي أغلى ما أملك."
الآنسة زهراء (٢٠ عامًا، كلية الآداب): "كنت طفلة جميلة ومتفوقة، وكان الجميع يُعجب بي."
سادسًا/ ما الذي تتمنى تغييره في طفولتك؟
٩٩٪ يرغبون بتغيير شيء في طفولتهم، وشخص واحد فقط لا يرغب، لأنه يعتقد أنه حظي بطفولة رائعة.
بعض الإجابات:
السيد أحمد فالح (٤٣ عامًا، طالب دراسات عليا): "كنت خجولًا."
الآنسة "ن.م" (٢٢ عامًا): "أرتدي الحجاب من التاسعة وأصلي مبكرًا، وأمحو حب مراهقة آلمني كثيرًا."
الآنسة تبارك (٢٥ عامًا): "أرغب بتغييرها كلها."
الآنسة مريم حميد (٢٦ سنة): "بعض العادات السيئة، العصبية، العناد."
السيد رعد الشويلي (٥٢ عامًا): "أتمنى تغيير الفقر والحرمان من أبسط مقومات العيش."
_ سابعًا/ شخص من مرحلة الطفولة تتمنى أن تلتقيه الآن؟
٩٧٪ يرغبون بلقاء شخص من الطفولة، ٧٠٪ منهم أشخاص قد ماتوا. فقط ٣ أشخاص لا يرغبون بلقاء أحد.
_ ثامنًا/ هل تجد صعوبة في تذكّر طفولتك؟
٩٠٪ يتذكرون طفولتهم بتفاصيل دقيقة. ١٠٪ يجدون صعوبة في التذكّر، و١٪ منهم قال إنه لا يرغب بتذكرها.
_ تاسعًا/ ما الذي يمكن أن تتعلمه من الطفل الذي كنت عليه؟
٥٠٪ قالوا: "لا شيء"، معتبرين أن الأطفال سُذّج لا يمكنهم تعليم شيء.
٥٠٪ الأخرى أجابت بإجابات متنوعة:
الأنسة ضحى (٢٦ عامًا): "الشجاعة وعدم التنازل عن حقوقي."
السيد أ.ج (٢٥ عامًا): "أن آكل كثيرًا وأتلذذ بالأكل ومشاهدة التلفاز."
الأنسة سعاد (٣٤ عامًا): "أن أكون صريحة ولا أخجل من التعبير عن مشاعري."
السيدة ياسمين (٥٨ سنة): "أن أعيش اللحظة، ولا أفكر بالماضي أو المستقبل."
_ عاشرًا/ نصيحة أو كلمة توجهها لنفسك الطفلة لو التقيتها؟
١٠٠٪ أجابوا عن السؤال.
من النصائح:
الأنسة "أ.ص" (٤٠ عامًا): "كوني قوية."
السيد حسن (٣٣ عامًا): "لا تثير المتاعب، واسمع كلام والديك."
الأنسة زهراء (٢١ سنة): "لا تخافي، حين تكبرين سيتغير كل شيء."
السيد حسن سامي (٣٠ عامًا): "رافقيني حيث يشيخ الزمان والمكان."
السيد هاني الشريفي (٤٥ عامًا): "لا تكبري مرة أخرى."
الأنسة مريم حميد (٢٦ عامًا): "لا تحزني."
الأنسة "س.ف" (٢٣ عامًا): "استمتعي بكل لحظة قدر المستطاع."
النتائج والأسباب:
بعد الانتهاء من استطلاع الرأي هذا، واستنادًا إلى النسب السابقة وإجابات الأشخاص الذين شاركوا فيه، توصلتُ إلى النتائج التالية:
أولاً: تبين أن الطفولة ليست "كلها سعيدة، كلها سعيدة" كما تقول الأغنية، وكما ظننتُ في السابق. فبحسب الاستطلاع، فإن النسبة العظمى من المشاركين أكدوا أن طفولتهم كانت غير سعيدة، بالإضافة إلى من رفضوا المشاركة أو الحديث عن الموضوع، واصفين طفولتهم بأنها أسوأ مراحل حياتهم. بعضهم لم يتردد في شتم طفولته، وحتى شتم اختياري لهذا الموضوع، واصفًا إياه بـ"الغباء البحت".
الأسباب الرئيسية لذلك تعود إلى المواقف والحوادث المؤلمة التي يتعرض لها الأطفال في تلك المرحلة العمرية، والتي تترك آثارًا نفسية سلبية تلازمهم حتى الكِبر. ومن هنا يتضح أن الطفل ليس كائنًا سريع النسيان كما يُشاع، فذاكرة الطفل تختزن الكثير من الأحداث والصور لفترة طويلة قد تدوم مدى الحياة، ما لم يُصب الشخص بأمراض مثل الزهايمر التي تؤثر على الذاكرة.
وقد أجاب عن استطلاع الرأي أشخاص من فئات عمرية مختلفة، وعبر كل منهم عن ذكرياته بوضوح، إلا نسبة قليلة قالت إنها لا تستطيع التذكر جيدًا، وعلى الأغلب أنهم لا يرغبون في ذلك. بعض المشاركين تجاوزت أعمارهم السبعين عامًا، ومع ذلك يتذكرون طفولتهم بكل تفاصيلها، وبدقة ووضوح لافت.
لذا، قبل أن تسيء لطفل وتقول له تلك العبارة الشهيرة "ستكبر وتنسى"، اعلم أنه لن ينسى، بل إن الذكريات المؤلمة تبقى في ذاكرة الإنسان أكثر من نظيراتها السعيدة. وقد أثبت الطبيب النفسي الشهير سيغموند فرويد أن "الذكريات المؤلمة الناتجة عن القمع في مرحلة الطفولة تختفي إلى حالة اللاوعي، وتظهر في الأحلام أو الأعراض المرضية". كما أن ذكريات الطفولة قد تظهر في سن متأخرة عندما تصبح الطفولة جزءًا من الماضي.
ثانيًا: من خلال الإجابات المتنوعة، واستنادًا إلى أعمار ووظائف والحالة الاجتماعية والمادية لأصحابها، توصلت إلى ما يلي:
أغلب الذين ذكروا أن طفولتهم كانت سعيدة هم من مواليد السبعينات والستينات والخمسينات، ومن تجاوزت أعمارهم الأربعين عامًا. في حين أن جميع مواليد الثمانينات والتسعينات والألفية الأخيرة وصفوا طفولتهم بالتعيسة، مرجعين أبرز الأسباب إلى ظروف الحرب والحصار الاقتصادي التي مرت بها البلاد في تلك الفترات.
كما لعبت كل من الحالة المادية والاجتماعية دورًا كبيرًا في تشكيل ملامح طفولتهم. فمن نشأوا في عوائل ذات وضع مادي جيد ودخل عالٍ كانوا من بين من وصف طفولته بالسعيدة. أما من نشأوا في ظروف مادية متدهورة، في عوائل ذات دخل متوسط أو محدود، فقد تركت هذه الظروف في أنفسهم انطباعات سلبية عميقة. كذلك كانت الحالة الاجتماعية ذات تأثير كبير، حيث شكّل اليُتم، وفقد أحد الوالدين، أو انفصالهما، عاملًا أساسيًا في تعاسة الطفولة. وقد قال كثير ممن عانوا من اليُتم أو انفصال والديهم إنهم يعتقدون أن وجود أحد الأبوين أو كليهما إلى جانبهم كان سيخفف كثيرًا من معاناتهم.
ثالثًا: نتيجة لأننا نعيش في بلد يُصنَّف ضمن بلدان العالم الثالث التي تهيمن عليها صفات التخلف والفقر، فإن أغلب العائلات تنجب عددًا كبيرًا من الأطفال، مما يجعل إمكانية التركيز على تربيتهم جميعًا أمرًا شبه مستحيل. وتضطر هذه العائلات الكبيرة، بعد زواج الأبناء، للعيش معًا في بيت واحد يضم الجد والجدة وعددًا من الأعمام والعمّات وأبنائهم، وكذلك الإخوة والأخوات وأبنائهم أيضًا.
هذه التجمعات الأسرية الكبيرة ليست دائمًا مثالًا للترابط، بل تكون في كثير من الأحيان سببًا في تعرض الأطفال للتحرش، والاستغلال الجنسي، والضرب، والتنمر من قبل أقاربهم ومن يشاركونهم المنزل وغرف النوم.
أما المدارس في بلداننا النامية، فهي ليست أفضل حالًا من البيوت. فلا توجد رقابة حقيقية من الإدارة، ولا على الطلبة أو الصفوف، بل غالبًا ما تكون المدارس ثلاثية الدوام (أي تُستخدم نفس البناية لثلاث مدارس في أوقات مختلفة)، مما يجعل وقت الدوام قصيرًا، وبالتالي تقل فرص الفهم والمشاركة.
يتكدس في الصف الواحد أكثر من 50 طالبًا، وأحيانًا يزيد العدد عن 60، مما يشتت انتباه المعلم، ويجعل من الصعب جدًا التركيز على جميع الطلاب. فكلما زاد عدد الأفراد، صَعُبَت السيطرة عليهم في أي مؤسسة كانت.
ونتيجة للوضع الاقتصادي المتدهور، فإن المدرسة تُصبح مصدرًا إضافيًا للعنف، حيث يُحرَم العديد من الأطفال من حقهم في التعليم. ولا توجد قوانين واضحة لحماية الطفل والمرأة، وإن وُجدت فهي لا تُطبَّق، كما أن المؤسسات التي تهتم بهذه القضايا قليلة، وغالبًا لا تجد من يدعمها.
لذلك، لا عجب أن حقوق الطفل لدينا مهدورة، وأن حياته معرضة للخطر الدائم. يعمل الكثير من الأطفال في سن مبكرة، ويُستغل عدد كبير منهم في شبكات التسول والدعارة والاتجار بالأطفال والأعضاء البشرية. وحتى إن حاولت أن تحمي طفلك، فلن تستطيع حمايته من البيت، ومن فيه، أو من المدرسة، أو من الشارع الذي يسلكه يوميًا، ولا من الفقر، أو الجوع، أو المرض، أو التحرش، أو الخطف، أو حتى القتل.
إن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للبلد، والعلاقات الأسرية، وطبيعة التعليم في المدارس، أصغر الأمور وأكبرها، كلها تنعكس على حياة أطفال الأمس، لتصنع منهم نساء ورجال اليوم، ليصنعوا هم بدورهم أطفالًا آخرين، يكونون الأسرة، فالمجتمع، فالدولة، وهكذا تستمر دورة الحياة.
أما الحل، فهو بأيدينا نحن أولًا، قبل الجميع. يجب أن نبدأ بأنفسنا في إيجاد الحلول لهذه المشاكل، وأن نطالب بحقوقنا وحقوق أطفالنا، ونعمل جاهدين لحماية الطفولة.
إن الطفل كائن مقدس، يشبه البذرة: إن زرعتها في تربة جيدة وسقيتها واعتنيت بها، أينعت وازدهرت وأعطت طيب الثمر. أما إن زرعتها في أرض قاحلة، وحرمتها من حاجاتها، ولم تعتنِ بها، فإنها تذبل وتموت. وفي أحسن الأحوال، قد تكبر، لكنها ستصبح نبتة ذابلة، جرداء، بلا ثمر، وأضعف ريح كفيلة بأن تقتلعها.
جميع الأطفال يستحقون طفولة سعيدة. أنا وأنت قد انتهت طفولتنا، حتى وإن لم نرغب في تصديق ذلك. وإن رغبنا بالعودة لتلك الأيام، فلن يحدث. لكن، حتى وإن كانت طفولتنا تعيسة، فإن طفولة الأجيال القادمة في أيدينا نحن.
فهل سنتعلم من أخطاء آبائنا وأمهاتنا؟ هل سنتعلم مما عشناه، ومن تجاربنا؟ أم أننا سنكرر الأخطاء ذاتها إلى ما لا نهاية؟
إن كان الماضي مرًّا، فإن المستقبل لنا، والغد بأيدينا.
أذكر قول جودي أبوت في رواية "صاحب الظل الطويل"، وهي من الشخصيات المؤثرة في طفولتي. كتبت جودي لصاحب الظل الطويل في إحدى رسائلها:
"أظن أن الجميع يجب أن يحظوا بطفولة سعيدة يتذكرونها، أياً تكن المتاعب التي يواجهونها حين يكبرون. ولو صار لي أطفال يوماً، لن أدعهم يعانون أي هموم إلى أن يكبروا، حتى وإن كنت أنا تعيسة."
اضافةتعليق
التعليقات