عندما نقرأ قوله (صلى الله عليه وآله): "ما أوذيَ نبيٌّ مثلَما أوذيت" والمروي في مصادرِ الفريقين، يعترينا العجب ونتساءل: كيف ينفي نبينا (صلى الله عليه وآله) أن يماثله أي نبي في الأذى الذي تعرّض له، ونحن عندما نقرأ تأريخ أنبياء الله (عليهم السلام) نجد أنهم تعرّضوا لصنوف من الأذى لم يتعرض لها النبي (صلى الله عليه وآله)، فقومه لم يبنوا له بنيانا ويلقوه في النار المستعرة كخليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام)، ولم يُقطع رأسه كالنبي الشهيد يحيى (عليه السلام)، ولم يتعرّض للكيد والأذى من أقرب الناس، ليكون مصيره الرّق ثم الاتّهام ثم السجن كالنبي يوسف (عليه السلام)، وغيرها من قصص الأذى الفادح الذي تعرّض له أنبياء الله في مسيرة الدعوة !
إن المراد من الحديث الشريف بيانُ عظمة البلاء الذي وقع على خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله)، وشدّة أذيّته؛ بصرف النظر عن أنواع الأذى التي ابتُلي بها الأنبياء؛ فقد جرى عليه نوع خاص من الأذى لم يجرِ على أحدٍ من الأنبياء، بل يفوق في شدته ما وقع عليهم جميعا!.
وقد ذكر علماؤنا الأجلّاء عدّة وجوه قيّمة لبيان شدّة الأذى الذي وقع للنبي (صلى الله عليه وآله) ولعلّ أهمّها هو إنَّ أذيّة ذريته وأهل بيته (عليهم السلام) هي أذيّة له لشدة العُلقة واللُحمة بينه وبينهم، وهو القائل: "ومن آذى نسبي وذوي رحِمي فقد آذاني"
فما وقع على بضعته الزهراء عليها السلام من ظلم وأذى وانتهاك حرمة هو أذيّة له لأنه صرّح مرارا وتكرارا: " فاطمةُ بضعةٌ منّي فمَن آذاها فقد آذاني" .
والأذيّة الواقعة على أميرِ المؤمنين عليه السلام أذيّة له دون أدنى شك لأنه نفسه بشهادة القرآن: { وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ }، ولأنه صلّى الله عليه وآله قال: " مَن آذى عليّاً فقد آذاني"
ومن آذى ريحانتيه الحسن والحسين عليهما السلام فقد آذاه لأن الأمة سمعته وهو يقول: " اشتدَّ غضبُ الله على من أراقَ دمي وآذاني في عترتي"
هذا النوع من الأذى الدائم، والمستمر بدوام الحياة واستمرارها لم يحصل مثيله لنبي من الأنبياء الذين كان بلاؤهم ينتهي مع نهاية حياتهم الشريفة، أما ذرية النبي صلى الله عليه وآله الذين هم عِدل القرآن والباقون ببقائه فكلما وقع عليهم من أذى في أي بقعة من بقاع الأرض، وفي أي زمان فهو أذى لقلب النبي صلى الله عليه وآله !.
في قصيدة للشريف الرضي يرثي بها الإمام الحسين عليه السلام، ويخاطب الرسول صلى الله عليه وآله في هذه الابيات واصفا ما وقع على ذريته من الرزايا العظيمة:
يا رَسولَ اللَهِ لَو عايَنتَهُم
وَهُمُ ما بَينَ قَتلى وَسِبا
لَرَأَت عَيناكَ مِنهُم مَنظَراً
لِلحَشى شَجواً وَلِلعَينِ قَذى
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله غائبا عن تلك الفجائع التي حدثت لذريته؟
لقد كان صلّى اللهُ عليهِ وآله عالما بتفاصيل ما سيقع على ذريته من الظلم والإبادة من شرار أمته، وقد ذكر لهم في مناسبات شتى إن الأمة ستستضعفهم، وتخذلهم بعده؛ فعن الإمام الصادق عليه السلام: " أن رسول الله صلى الله عليه وآله نظر إلى عليّ والحسن والحسين فبكى وقال: أنتم المستضعفون بعدي" .
وعنه عليه السلام: " لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وآله غُشي عليه، فبكت فاطمة عليها السلام فأفاق وهي تقول: " من لنا بعدك يا رسول الله"؟! فقال: " أنتم المستضعفون بعدي والله ".
لقد كان صلى الله عليه وآله ينظر بعينه الملكوتية التي تخترق سُتُر الغيب إلى مستقبل أمته، وما سيفعله البغاة الجاحدون منهم بذريّته، رغم ما أمر به القرآن من وجوب مودتهم، وما شدّد صلّى الله عليه وآله في الوصية ببرّهم، ورعاية حقهم، وحفظه فيهم!
كان صلى الله عليه وآله عالما بتفاصيل مصارعهم، وكان يحدّثهم بما سيجري عليهم بعده، وإن الرياح الهوجاء ستعصف بهم بلا هوادة و رحمة، وستذرهم ما بين قتيل، وشريد، وسجين، وكان يبكي أشد البكاء لتلك المآسي حتى تبتلّ لحيته الشريفة !
كان عالما بكل حرمة ستُنتهك، وشربة سم ستُدس، وقطرة دم ستُراق، بكل سيف يُشهر، وسهم يُرمى، بكل دمعة، وآهة، وغصّة .
كان يعلم إن كبد حسنه ستُقطّع بالسم، ورأس حسينه سيُرفع فوق رأس الرمح، وإن حرائره ستُسبى وهذه الرزية كانت الأشدّ إيلاما لقلبه الكريم!.
وإن المنادي سينادي: إحرقوا بيوت الظالمين، وسيفرّ أطفاله في صعيد كربلاء ، سيسومهم الجُند أنواع العذاب بلا رأفة ولا رحمة؛ ستُذبح طفولتهم، و تُستباح براءتهم !
عبد الله سيُفطم ظمآنا بسهم غادر، ورقية ستموت بغصّتها في خربة !.
نعم رقيّة الأثيرة لقلب الحسين، بعذوبتها، وحنانها، ورقّتها المفرطة، بعذابات شوقها، وانتظارها المرهِق لقلبها الصغير، وطفولتها الموؤودة.
كان صلى الله عليه وآله يعلم بوجدها، وألم انتظارها، لقد رأى بعينه جسدها الواهن من يتم وتعب وجوع، ولمس بأنامله كتفها المتورّم من لسع السياط، وبكى لبكائها شوقا للحسين!
هو يعلم أن حنان عمتها زينب لم يعد فيه عزاء لقلبها الموجوع، وأحضانها لم تعد كافية لتطفي لهيب الشوق الذي بلغ منتهاه!!
هي تترقّب حضن أبيها، وعطر أبيها، وأنفاسه إذ تداعب خدها الذابل .
رحلت رقية في خربة الشام بمرأى من عين رسول الله الدامعة وهو يردد: " اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي".
ولله در الشاعر إذ يقول:
ماذا تقولون إِذْ قالَ النبِيُّ لكمْ
ما ذَا فعلتُمْ و أَنتمْ آخِرُ الأممِ
بِعترتي و بأَهلي بعدَ مُفتَقدي
مِنْهُمْ أُسارى و قتلى ضُرِّجوا بدمِ
ما كانَ هذا جزائي إِذْ نصحتُ لكمْ
أَن تُخْلِفُوني بسوءٍ في ذوي رحمي.
اضافةتعليق
التعليقات