لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني: القسم الثاني
عقدت جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية أمسية رمضانية، حيث ألقى سماحة الشيخ مرتضى معاش محاضرة تحت عنوان: (لماذا نبني وكيف نبني وماذا نبني؟)، ذكر فيها أسباب سقوط الأمم وانهيار الحضارات، من خلال الاستلهام من آيات الذكر الحكيم والاعتبار من عاد قوم النبي هود الذين استكبروا بالأرض ببناء الأبراج الشاهقة طغيانا وبطشا لكن ذلك تسبب لهم بالعذاب والنهاية السيئة. فما هي العبر من هذه القصة وكيف نبني حياتنا؟
وفيما يلي القسم الثاني من المحاضرة:
السنن القرآنية في سقوط الأمم
لابد أن نستفيد من القصص القرآنية من أجل تحسين واقع حياتنا اليومية، فكل هذه القصص التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم هي مرآة لنا، علينا أن نرى حياتنا، فهل نحن نعيش مثل تلك الأمم التي تعيش في ظل الطغيان والكفر؟، والكفر هنا يعني أيضا الكفر بالنعمة، والذين لايؤمنون بالله هم كفار لأنهم لا يشكرون المنعم بطاعته.
الحضارات في الأغلب تتفاخر بالإنجازات والمؤرخون يقيسون التفوق بالعمارة والفنون والهيمنة والملكية والمظاهر الترفيهية. فهل هذا فعلا يمثل الحضارة؟
الحضارة يفهمها البعض من خلال انجازات الرسامين مثلا بيكاسو أو سلفادور دالي، وعبر التفاخر ببناء ناطحات السحاب والأبراج والمتاحف وتشييد الأبنية الفاخرة وينظرون إليها باعتبارها رمزا للتقدم والحضارة، بينما في الواقع الحضارة ليست هذه، وإنما هي حضارة الأنبياء حضارة القيم، والأخلاق والإنسانية والتقوى، وشكر النعمة، وهذا نجده في القرآن الكريم.
هناك قوانين يطرحها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، تبين لنا العواقب في الحياة، وهي قوانين تكوينية ومنها ينبثق القانون التشريعي الإلهي، والفرق بينها وبين القوانين الوضعية، أن القانون الوضعي هو اعتباري منبثق من استحسانات البشر ومصالحهم الخاصة، أما القانون التشريعي الإلهي فهو منبثق من القانون التكويني، فمثله مثل القانون التكويني إذا لم يلتزم به بصورة صحيحة سوف يسقط.
لذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذكر قوانين تكوينية وسنن تاريخية تقوم بها الأمم وتحيا، أو تندثر بها وتموت، ومن ضمنها:
أولا: قانون الاضمحلال الحضاري
يقول الله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) {المؤمنون/44}
هكذا دائما الحركة التاريخية للأمم والحضارات هي حركة النشوء والولادة، بدء بالطفولة والمراهقة والشباب مرورا إلى الشيخوخة ثم تنتهي هذه الحضارات كما ينتهي الإنسان (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) يس 68.
فالحضارة مثل الإنسان لها بداية ونهاية، فقانون الاضمحلال الحضاري الذي ذكره القرآن الكريم، وأنه هناك عمر خاص لكل أمة، بسبب عدم اعتبار أفراد المجتمعات والأمم من التجارب السابقة وانقلابها على قوانين وسنن الحياة، فتسير نحو هلاكها عبر التآكل والاضمحلال، كالإنسان الذي لا يبالي بشروط الصحة وأنماط الحياة السليمة فيصاب بالأمراض التي تأخذه نحو الموت أو تدريجيا أو دفعة واحدة.
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) الكهف 59.
فهناك موعد بل وعد، فهو وعد وموعد إلهي بأنه كل من يكسر هذا القانون سوف ينهار ويسقط، فهناك موعد لنهاية هذه الحضارة بسبب السلوكيات الشريرة والسيئة التي ترتكبها، وهناك قانون وضعه الله سبحانه وتعالى من أجل أن يعتبر الإنسان ويتكامل وينبني بطريقة معنوية صحيحة.
ثانيا: قانون البطر والطغيان
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) القصص 58.
إن وجود الإنسان مؤقت في هذه الدنيا، وهو من أجل الامتحان والاختبار، لكن الإنسان يريد أن يخلد، فيبحث عن الثروة ويجمع المال، ويبني القصور والعمارات، يريد أن يخلّد اسمه، ويخلد نفسه، (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة 3. ولكنه لن يخلد في الدنيا، التي هي مجرد مرحلة انتقالية، لذلك عندما تتكون عنده ثروة وتتراكم له أموال كثيرة تحدث عنده حالة الطغيان.
فيبدأ التمرد أولا، ومن ثم يأتي بعد التمرد الطغيان، ومن بعد الطغيان يأتي البطَر، فيكفر بالنِعَم الكثيرة كما حصل مع قوم عاد، أنذرهم كثيرا لكنهم كانوا متبطرين، وكلمة بطر تعني الطغيان المتصاعد بالغرور بسبب كثرة النعم.
لذا نلاحظ بعض الدول تمتلك الثروات الهائلة والصواريخ النووية والصناعات الهائلة والتقدم العلمي، فوصلت إلى مرحلة من التكبّر والبَطر، وكفرت بنعم الله سبحانه وتعالى، ولكن نحن نلاحظ بعض الآثار للانهيار الذي قد يحدث في أية لحظة، وهم يعلنون ذلك ويقولون، في أية لحظة قد ينهار السلام العالمي.
وقد تحصل الحرب النووية بوجود أسلحة تصل إلى 30 ألف رأس نووي في العالم، وربما 5% من هذه الكمية من الأسلحة النووية تكتفي لفناء العالم كله، فهذا البطر وهذه القوة الغاشمة بالنتيجة لن تكون في صالحها بل تحمل في أحشائها عناصر دمارها.
ثالثا: قانون النسيان وضياع الذاكرة
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الزمر 27.
ليس هناك شيء ينساه الإنسان، فكل شيء موجود في ذاكرته، لكنه يحتاج إلى التذكّر، لهذا يخاطبهم الله سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى، أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى) {طه/128}.
فالإنسان هو الذي ينسى نفسه، ضميره حاضر وعقله موجود، يقول له هذا تبطّر، هذا كفر، هذا طغيان، ولكن هذا الإنسان يبقى يتناسى (لأسباب ثانية سوف نذكرها)، وبالنتيجة هذا التناسي يجعله في مواجهة الله سبحانه وتعالى، ويسأل (كنتُ بصيرا لمَ حشرتني معهم) فتأتيه كل هذه العبر والتاريخ والقصص تراها أمامك، والأمم والمجتمعات تراها كيف تسقط، مع ذلك لا تشكر على هذه النعمة الموفورة، فيكون أعمى في الدنيا ويُحشر في الآخرة مع الخاسرين، الذين غرقوا في الإسراف والتمتع واللذة المادية.
رابعا: قانون المغالطات
من المهم جدا أن قراءة القرآن الكريم بتأمل وتدبر، لأن الإنسان عندما يقرأ القرآن لابد أن يرى نفسه في هذا الكتاب الكريم، وأين موضعه فيه، وفي أي آية قرآنية، فالآيات مرايا لنا، لكن طبيعة البشر إثارة الجدال فقط، ولكن لا بأس اذا كان يناقش لفهم الحقيقة والوصول إليها.
لكن هناك من يريد أن يجادل فقط، لماذا كذا وكذا ولماذا هذا الأمر لا يجوز ومن قال ذلك حول الحجاب مثلا، وهكذا يجادل في هذه الأمور لكي يثبت وجهة نظره، ويسير على الطريقة التي اختارها هو وسار فيها وإن كانت حراما، وإن كان فيها تجاوزا لحدود الله سبحانه وتعالى. هذه هي طبيعة الإنسان يغالط الآخرين لتبرير سلوكياته.
هذه المشكلة موجودة في الإنسان. وعندما يكون المجتمع من هذا النوع فهذا يعني السقوط لأنه يصبح أعمى كما جاء في الآية القرآنية.
والإنسان الذي يعيش أعمى سوف يسقط في أي يوم قادم داخل حفرة من الحفر، لذا فالمغالطة تعني إصرار الإنسان على البقاء أعمى، ولا يريد أن يرى الحقيقة ولا يرى الواقع، هذا هو قانون المغالطات والنسبيات، حيث ندخل في الجدال حول كل شيء، ونقع بالنتيجة في الخطأ، وكل شيء حلال ولا يوجد شيء خطأ أو محرّم وهذا هو قانون السفسطة، حيث يجعل كل شيء مباح لنا، وفق قانون الحرية الشخصية فنتجاوز كل الحدود. وهناك أناس كثيرون يتجاوزون الحدود من أجل تحليل الحرام.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) الكهف 54.
إنهم يناقشون النبي هود، يقول لهم إن كل هذه النعمة هي من الله سبحانه وتعالى وهناك آيات كثيرة تؤكد ذلك لا يسمح المجال بذكرها، وهناك آيات كلها تؤكد على تكرار الجدال، إلى أن وصلوا إلى النتيجة النهائية وهي وقوع العذاب عليهم، نتيجة لخلطهم الحق بالباطل بالجدل والمغالطة.
بالطبع نحن نذكر هذه القوانين حتى نتعلم ونعلم أبناءنا، حتى نمشي على طريق الحقيقة، وطريق الواقع، ولا نسير في طريق الالتواء، عبر التدبر في آيات القرآن الحكيم التي تكشف زيف المغالطة، عبر انارة الطريق وشفاء القلوب من الأوهام المزيفة، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) الإسراء 82.
هذا هو الشفاء الحقيقي للإنسان، وما عداه كله مرض مثل مرض الطغيان والبطَر، ومرض الكفر، وهناك أمراض في فكر الإنسان، أمراض نفسية تجعله يتعالى ويتكبّر ويتجبّر ويميل لمصالحه الخاصة.
القرآن هو الذي يجعلنا نرى الطريق السليم، إنه شفاء لأفكارنا، لعقائدنا، يرى في القرآن شفاء، ولا يقرأ القرآن، ولا يتعلم من القرآن فهو ظالم لنفسه، وتزداد خسائره ودائما يكون في حالة خسارة.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ –الشدة- فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ)(1)، فكل هذه النقاط التي ذكرها الإمام تواجه الإنسان الذي لا يقرأ القرآن بتفكر وتعقل، ويبقى يمشي أعمى في الطريق الخاسر وهو طريق النفاق.
- القسم الثالث سيكون تحت عنوان: ماهي أسباب سقوط قوم عاد؟...
اضافةتعليق
التعليقات