إن من الرسائل المهمة التي يمكن أن نقرأها من بين السطور فيما سطرته كتب التاريخ عن شجاعة الفرسان وبطولاتهم قبل اقتحام الميدان وهو ما يُعرف بالأراجيز، نعم هي كلمات تقال -عادة- ليعبر فيها المبارز عن حسبه ونسبه وليَذكُرَ فيها مفاخره وبطولاته، تلك التي يَضَعْفَ بها همة الأعداء ويُزيد بها همم الرفقاء.
أما في معركة أرض الطفوف -التي كان كل شيء فيها استثنائي وخاص- هناك ميزة مهمة نقرأها في كل أرجوزة قِيلتْ فيها، فهي كانت بمثابة جهاد في قلب جهاد، وهو ما يُعرف "بجهاد التبين" قبل جهاد بذل النفس والأبدان. فكل مبارز من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) كان وجودهم وكل لحظات حياتهم بين يدي إمامهم جهاد ودفاع، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن فعلهم هذا فيه بصيرة لنا كيف نثبت في اللحوق مع إمام زماننا كما وفقوا بالثبات، وهذه البصيرة هي أن يكون لدينا يقين تام وعقيدة راسخة بمن نحن ملتحقون بركبه، ولمَ نحن ملتحقون؟
فالذي كانت معرفته وجدانية وصل إلى منتصف الطريق وعاد، والذي كانت معرفته سطحية التحق بالإمام ظننا إنه سينال شيئًا من زخارف الدنيا ولما وجد الحقيقة أمامه أن لا دنيا في طريق الإمام الحسين (عليه السلام) عاد أدراجه مسرعًا!
فالقضية قضية إيمان عميق بالحق، ويقين صادق مع مَنْ الحق، لذا فأصحاب الإمام لم يكتفوا بالذب عن إمامهم والوقوف دونه بل بينوا ووعظوا وتحدثوا حتى آخر لحظة، فالحق قد تشرب في وجودهم، وبذل النفس صار مقصدهم.
وكنموذج هو ما قاله سعيد بن عبد الله الحنفي لما برز مرتجزا في ميدان:
[أقدم حسين اليوم تلق أحمدا
وشيخك الخير علياً ذا الندى
وحسناً كالبدر وافى الأسعدا](١)
ففي هذه الأرجوزة يتضح لنا معنى وضوح الهدف والغاية لدى قائلها، وهي تُبيين بصراحة تامة وتكشف عن حقيقة خروج الإمام الحسين (عليه السلام) التي تم تزييفها وتغرير الناس بخلافها؛ حتى تعالت أصواتهم بالمقولة الشهيرة "مالنا والدخول بين السلاطين"، فالذي جاء ووقف في جيش الأعداء قد صُورَ له إن الإمام الحسين (عليه السلام) رجل سلطة وحكم خرج على خليفة المسلمين!
وهكذا أتت هذه الأرجوزة مُعرفةً أن إقدام الإمام الحسين (عليه السلام) هو لملاقات جده المصطفى وأبيه المرتضى وأخيه المجتبى (صلوات الله عليهم) الذين هم في جنان الخلد، وبذلك كشفتْ زيف ادعائهم، ومزقتْ حجب ضلالتهم، وألقى بها الحجة على كل من كان جاهلًا أو غافلًا أو مُغررًا، بل وكل من سمعها فيما بعد.
بل ومن الالتفاتات التي تبين عمق معرفة هذا الصاحب هو دقة اختيار العبائر فقد عرف عن جد الإمام وخاتم المرسلين بإسم [أحمد] وليس [محمد]، فكما تذكر الروايات في تفسير علي بن إبراهيم: قال: وسأل بعض اليهود رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم سميت محمدًا وأحمدًا وبشيرًا ونذيرًا؟ فقال: أما محمد فإني في الأرض محمود، وأما أحمد فإني في السماء أحمد منه في الأرض، …"(٢).
وكأن في ذلك إشارة إلى البُعد الغيبي لواقعة كربلاء التي أخبر عنها الإمام قبل خروجه، كما ورد "فلما كانت الليلة الثانية راح ليودع القبر، فقام يصلي فأطال، فنعس وهو ساجد، فجاءه النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في منامه، فأخذ الحسين (عليه السلام) وضمه إلى صدره، وجعل يقبل بين عينيه، ويقول: بأبي أنت، كأني أراك مرملًا بدمك بين عصابة من هذه الأمة، يرجون شفاعتي، مالهم عند الله من خلاق، يا بني إنك قادم على أبيك وأمك وأخيك، وهم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة"، … الخ(٣)
فها هو الإمام يقترب من تحقيق ذلك الإخبار النبوي لينال ما وعده به من قِبل الله تعالى على لسان جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، شريطة الاقدام إلى كربلاء وتقديم هذا القربان.
وفي ليلة العاشر نجد في ما حَدَثَ به إمامه تأكيدًا واشارة إلى رسوخ هذا الرابط بقوله وقال- أي سعيد- : "والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا نبيّه محمّداً (صلى الله عليه وآله) فيك، والله لو علمت أنّي أقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق حيّا ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك، وإنّما هي قتلة واحدة. ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً "(٤).
وفي لحظات استشهاده أيضًا جاء في الخبر لما سقط سعيد الحنفي إلى الأرض قال: (…، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت ثوابك في نصرة نبيّك، ثمّ التفت إلى الحسين (عليه السلام) فقال: أوفيت يا ابن رسول الله؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنّة" (٤).
وختامًا هذه الوقفة تعطينا هذه البصيرة: في كل شيء يمكن أن تكون هناك منطقة رمادية نتسامح بها، إلا في طريق الحق فلا توجد منطقة رمادية يمكن أن نسير عليها وندعي إننا مع الحق أو في طريق الحق!! هناك فقط منطقة بيضاء ناصعة تشع بالنور والحقيقة وأخرى سوداء معتمة لا تزيد من يميل اليها أو يسير فيها إلا ظلامًا وظلمًا لنفسه؛ وبهكذا حزم في الارتباط بالحق يمكن أن ننال الثبات وحسن الختام بإذن الله تعالى.
————
اضافةتعليق
التعليقات