لم تتُرجِم كروّية الأرض يوماً تقارب الوجهات، بل أضحت بشكلها الاعجازي بوصلةً تدور في أربعة جهات منفصلة، والتي كانت واحدة من أعظم اختبارات البشرية لينتفضوا يوماً على المسافات ويخرقوا قوانين البُعد بأميالٍ ممشيةِ ومحمولةٍ حتى صارت اليوم موسومةً في سُبل السماء.
وكذا هي بوصلة البشر، لم تُثبتهم يوماً في قطر الولادة والانتماء بل استمرت في زجهّم في مُدن قد تستحيل بها أرواحهم وأقدارهم ولكن السير إلى القبلة يتطلب المحاولات، فكان لابد من طرح فكرة الانتقال من بقعةٍ إلى أخرى في الوعي الديني، حتى تُربط الاستمرارية باستقامة الروح وعزمها وحتى تنشأ إرادة وجود الإنسان أينما كان وبمختلف الوضعيات، فلم تكن الخرائط قد رُسمت ولا الأقاليم قد حُددت لولا الزحف البشري من وجهة إلى أخرى واستيطان البقاع المختلفة لتتشكل القوميات والشعوب والقبائل.. ليتعارفوا.
فقد تعددت أنواع الهجرة البشرية على مرّ العصور، فمنها ما كان طوعيّاً لتجدد شكل الأرض ولتزداد المكاسب المادية والعلمية، والتي تمثلت في شكلها الإسلامي بهيئة الراحلين في طلب العلم والتجارة أمثال ابن جبير وابن بطوطة والبيروني وغيرهم..، وهيئة الفتوحات الإسلامية التي أسفرت عن التداخل الثقافي والمعرفي بين البلدان أمثال فتح الأندلس وخراسان وبخارى، وقد توارثت الأمة الإسلامية سلوك الهجرة حتى صار من خصال الإسلام.
ولكن.. حتى الهجرة كان لها نقيضٌ سوداوي وهو الإقصاء الذي مارستهُ الحكومات الجائرة بحق أفواه الحق لتُردي بها مكمومة مُبعدة لضمان سيادتها، وقد طالت تلك التصرفات الجائرة أئمة الهدى (عليهم السلام) وأبنائهم حتى صاروا المثال الأعظم لحركة الإقصاء التي انتشرت في عصر العباسيين خاصة بأقصى حدٍ له، والتي طالت كل الأئمة الذين عاصروهم وصولاً إلى الإمام الرضا (عليه السلام) والذي كان لإقصائه عن أرضه قناع الإجلال والتكريم لهُ بتولي الخلافة على أرض خراسان، قناع كان محلّاً للتهم من الأمة التي لا تثق بوّليها، ولكن هل بقي الإمام يردّ تلك الأباطيل عن نفسه في رحلتهِ البعيدة؟ أم أنه أطلق أولى موجات صناعة المحتوى وربط سلك التواصل الاجتماعي؟
لقد هيأت حكومة المأمون العباسي خطّط إقصاء الإمام الرضا (عليه السلام) من أرضه إلى بلاد خراسان، بعقل استراتيجي ماكر مزجت بهِ بين دواعيهم الكاذبة بالتخلّي عن الخلافة وإعادتها إلى ولاة السماء وبين خلخلة ثقة الأمة بإمامهم وذلك ببلورة صورة الزهد في عقولهم بأنها حبيسة الفقر والتصوّف وترك أمور السياسة عن المال إلى الأمراء، وعمدوا فيما بعد إلى إرغام الإمام الرضا (عليه السلام) على توّلي الزعامة الشكلية أمام الناس لتُكسر صورتهُ في أذهانهم وليصدوّا عن الأمر صدودا.
لكن لطالما قُلب السحر على الساحر بذكاء الهدف، فلقد استثمر الإمام الرضا (عليه السلام) جوهر الفكرة بالعمل وأفشى مكنون التوحيد في أراضي الغربة، بأحاديث ومناظرات ومعاجز، فحديثٌ واحدٌ تركهُ في أرض نيسابور أمست فيها رصانة التوّلي مثالٌ يُحتذى بهِ على مرِّ العصور، فلم يكن حديثُ السلسلة الذهبية حديثاً يُقاس بطوله بل بعظمته ووقته وطريقة قوله، فقد رسم الإمام (عليه السلام) في تلك المدينة صورةً لا تُنسى عن شروط التوحيد التي كان منها بل وأعظمها، وبهذه الطريقة استمر عمل الإمام الرضا (عليه السلام) فلقد عمد إلى استثمار الشدّة في إفشاء اليُسر وتسهيل الإنتاج في أرض جديدة، ولقد صنع الإمام (عليه السلام) في تلك الرحلة غربالاً فكرياً للعقول في ظل تكتلّ الحركات الفكرية المنحرفة التي انتشرت على إثر تشجيع العباسيين لحركة الترجمة آنذاك وذلك بمناظراته المشهورة في مجلس المأمون مع أشهر العلماء وأحذقهم في السؤال أمثال الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين وغيرهم من الملل، فكان (عليه السلام) يحتج على أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الزبور بزبورهم فلم يزل هكذا حتى أسس لنفسه ولشيعته حاجزاً علمياً رصيناً في تلك الحقبة فكان بذلك عالم آل محمد (عليه السلام).
قد يُشكل البعض بأن آفاق الإمامة مؤهلة لإرادتهم مهما كانت وأن طريق العصمة لا يُناسب مؤهلات البشر وهذا برمّته ظنُّ المتكاسلين، فالإمام إنسانٌ يصنعُ رسالتهُ إلى أمتّه بنكهة الإنسانية لا بهيمنة القدرات اللدنيّة، فلم يتسنى للإمام فرصة إمامة البشر لو لم يكن دورهُ البشري هو الكلمة الفاصلة في مسيرته مع الاعتراف المطلق بخصائصه الملكوتية، فكانت رسالة الإمام الرضا (عليه السلام) في رحلته القاسية تلك هي دوام العمل مع النية مهما اختلفت البقاع، فطالما كانت الهجرة متاحة فقدرات المهاجر تتاح بإرادته.. سواء كانت هجرته قسرية أم طوعية.
اضافةتعليق
التعليقات