أقبل شهر شعبان الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيّامه وقد أشرق الكونُ فيه بمولد أقمار يبزغ نورها من أفق المجد العلوي ويمزج فيهم روح الشهامة والإباء والنزوع عن الدنيا، وما شوهد مشتداً يناجيهم إلّا وملء قلبه إيمانٌ ثابت وحشو ردائه حلمٌ راجح ولب ناضج وعلمٌ ناجع.
لقد شاءت قدرة الله سبحانه وتعالى أن تكون ولادات لثلاثة أقمار في شهر شعبان المعظم مرتبة حسب الترتيب العملي لسيرتهم (سلام الله عليهم) في مسيرتهم الجهادية والرسالية، من امتد نور هدايتهم حتى يومنا هذا فأصبحنا نحن شيعة آل محمد وكل من كان نور هداهم قد لامس قلبه نتغنى بسيرتهم العطرة فما إن يكاد ذكراهم يتوارى عن الأبصار حتى يشتد بركان الشوق فينا فتصدح أيامنا مهلهلة بقدوم مناسبة تعيد ترنيم ذكراهم بأبهى صورها.
تلك الذكرى التي مامرَّ عليها مؤمن إلا وقد اغتنم من محياها غنيمة إما كانت من الأدب أو من الجود، تلك المكارم التي أوصى آل بيت النبوة أن نتسمى بها، فقد كان مفجر الثورة الإنسانية الإسلامية المحمدية هو الإمام الحسين (عليه السلام) أول هذه الأنوار التي من يوم شعت إلى يومنا هذا ماانطفئ نوره ولاقل ذكره أينما حطت حروف اسمه صدح المكان مستغيثاً يرجو شفاعته، كما ذكر في قصيدة حميد حلمي البغدادي:
يا شهرَ أحمدَ حافلاً بمواهبٍ
فيها النجاةُ وسؤلُها الإصلاحُ
فبِكَ الحسينُ أتى وليداً حامِلاً
نُبلَ الخِصالِ وطُهرهُ فواح
ثم من بعده تغنى بحامل لواءها وقائد كتائب الأخيار ومسطر كل فضيلة في أرض كربلاء هو أخوه العباس بن علي (عليهما السلام)، سليل المجد وسلسبيل الشهامة، الشديد في وجه الظلم وناصر أخيه حيث أشرق حسنه ليملأ الكون:
أعظِم بعباسِ المكارمِ والإبا
نِعم الشقيقُ خلودهُ صداح.
ثم لتنتقل أفراح الأمة الاسلامية لحامل راية الثورة وناقلها إلى العالم الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، الذي أشرف على نقل رسالة أبيه وجده إلى الأمة أجمع بكل تفاصيلها وجزئياتها التي كان ينفذها على أرض الواقع، زين العابدين وماجد من آل مجد للهدى مصباح
أهلاً بزينِ العابدينَ فضائلاً
ومُروءَةً تسموُ بها الأرواح.
ومهما حاولنا الحديث عن حياة الأنوار المحمدية منذ الولادة، فإننا سنجد أقلامنا تنساق ناحية المنظومة المتكاملة التي تمثلت في كربلاء، إن هؤلاء العظام (عليهم السلام) عاشوا في زمان لم يرتفع فيه الناس إلى مستوى معرفتهم وفهمهم وتأكيد قوة الإرادة في الوقوف معهم، فقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) منذ ولادته بشير سعادة ورجل تحرير من عبودية الطاغوت وأغلال الذل، حيث وقف النور قائلا(عليه السلام): «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدي»، وكلمة الإصلاح تتسع لكل الآفاق التي دلف إليها الفساد، وسادت الأرض ظلماً وظلاما لذلك كانت حركة الأنوار المحمدية (عليهم السلام) من أجل تغيير الواقع الفاسد إلى واقع صالح، سواء في الجانب الثقافي في الإسلام، أو في الجانب العملي الذي يتحرك في الخطوط السياسية المنحرفة، أو في الخطوط الاجتماعية بعلاقات الناس مع بعضهم البعض.
ولذا عقب الإمام الحسين (عليه السلام) فقال: «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»، فإن الانطلاق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحرك في تحديد ماهية المعروف وماهية المنكر، لمواجهة هذا المنكر على مستوى الواقع، سواء كان في الجانب العملي الذي أضحى ركاماً تسير عليه الأقدام في عهدنا أو كان الجانب الثقافي الذي ماتبقى منه سوى رماد يستنشقه جيل الضياع الذين ماعرفوا من المنكر والمعروف سوى أهوائهم التي زينها لهم الفاسقون.
ومن خلال هذا، لابد أن نستوحي من تلك الحياة التي عاشها الأئمة ومن قبلهم الأنبياء (عليهم السلام)، كيف يجب علينا أن نميز بين السائرين في الخط المستقيم وبين السائرين في الخط المنحرف، بين من يفتح عقول الناس على الحق وبين من يسير بالناس نحو الباطل، ولأننا أمة أنعم الله عليها بأن جعل منها خير خلقه الذين يرشدون إلى الحق فقد فكانوا لنا رهاناً في كل مجتمع وزمان ما إن استمسكنا بحبال نورهم حتى نجونا من مدلهمات عصرنا، فلقد حولوا الموت إلى حياة، والطرق التي مروا عليها إلى حضارات وتاريخ للقيم البشرية وكربلاء النموذج الحي، فـ "قبل عاشوراء، كانت كربلاء اسماً لمدينة صغيرة، أما بعد عاشوراء فقد أصبحت عنواناً لحضارة شاملة لاتنطفئ أنوارها وما ضاقت يوم أحضانها على امرئ قط فكل من تخطو قدماه أعتابها سمع قائلا من أهلها ينادي أهلا بزوار أبا عبدالله، فما كانت ولاداتهم هلاهل وأفراح فقط ولا كذلك ذكرى استشهادهم وإنما هي تذكير لرسالة امتدت عبر العصور خطوها بدمائهم ومواعظهم وأزهرت في كل مكان ياسمينة تحمل عطرهم بيضاء كما هي رسائلهم تحمل السلام وتنصر كل ضعيف فتهديه شذى الرحمة وسر الخلود، فامض في طريقهم ولا تخشى الوقوع لأن لك مولى يمسك معصمك يوم الورود".
اضافةتعليق
التعليقات