حينما تنضب ينابيع العاطفة تتسلط مشاعر عارية عن الرحمة تجرد الإنسان من شعور إلهي مقدس أودعه في النفس وسار في مجرى الروح حتى جعل القلب يتغذى منه فيرسم معالم الحياة التي فطرنا لأجلها لولا أن من أغوتهم شياطينهم قد مالوا كل الميل وسادوا الأرض بصفات يظنون أنها القوة وبها سيمتلكون كل شيء.
حينما تسود هذه الصفات فلابد لنا من تطهير القلب من عوامل القسوة، لتنعكس صورة اللين على المعاملة والسلوك..
يقول أحدهم: كنت راقدا في المستشفى وقد حصل موقف علمني أن الحياة لن تعطيك الفرصة التي تريدها، حيث إنه كان هناك أب أحضر ابنه للمستشفى، ومن الواضح أن حصل بينهم شجار مما أتعب الابن وأوصل حالته إلى هذا الحد، كان واضحاً جداً من ملامح الأب أنه غير متأثر وقد جاء معهم اجبارا، واقف خارج الغرفة وكل همه أن ينتهي الموضوع ليذهب للنوم، ثم أتت مكالمة وصار الأب بوضع عصبي جدا ويقول "إنه كل يومين يفعل ذات الموضوع ونأتي به إلى المستشفى، المكالمة كانت طويلة وكلها قسوة وقد لفت نظر الشاب جملة في وسط المكالمة كان يقول: أنا أريد أن أجعله رجلاً وقسوتي عليه ليشتد عوده ولن أدخل معه وسأقوم بإرضاءه بكلمتين عندما يخرج ونعود للبيت هذا لخاطرك فقط".
مرت ساعة على الحدث والشاب تجره لحظات الفضول والغضب من الموقف وهو يتابع الأب الذي لا تظهر عليه أي ملامح سوى الجحود، وبعد لحظات أتى الأمن ونادوا بإسم ولده وقام الرجل بغضب شديد يرد أنه والده، ثم أخبروه (البقاء لله) فوقع الأب في لحظتها على الأرض وتحول الجحود إلى بكاء شديد وصراخ "أخبروه أن يعود والله لن أخاصمه مرة أخرى ولن أمد يدي عليه، أنا المخطئ فقد كنت أظن أنه يكذب حين يقول قلبي يؤلمني".
يقول الشاب أنه وقف مكانه بلا حراك وشعوره متجانس بين غضب وحزن كانت المرة الوحيدة التي يشعر بها أنه غير قادر على التعاطف مع شخص في حالته، كل الناس من حوله ذهبوا ناحية الرجل ليواسوه بينما هو الوحيد الذي بقي مكانه ثابتا، ثم يذكر مادار في نفسه من كلام: هل رأيت أن الحياة لن تعطيك فرصة لتصلح ما أفسدته، هل علمت الآن أنه لم يكن يمثل كما كنت تقول، وأن قسوتك عليه لم تصنع منه رجل بل أخذته منك إلى الأبد!.
هو لا يعلم ما الذي حصل بينهما ولكنه قد أبصر أن القسوة لم تنجب سوى قسوة، وأن الحياة لن تعطيك كل مرة أكثر من فرصة، رفض أن يدخل فيزيل ألم قلب ولده بكلمتين وكان من الممكن فعلاً أن ينجدوه ورام تأجيلهم إلى حين عودته، فما عاد ولاعادت تلك الفرصة التي تتكرر كل مرة فقد كانت هي الأخيرة.
هل لين القلب يؤخذ عليه أجر؟
كان سؤالاً قد طرح من إحداهن لشخص حكيم، إن عيني تدمع أو قلبي يؤلمني على شخص أو حيوان أو موقف حصل فهل لين قلبي يؤخذ عليه أجر؟
رد عليها ردا جميلا قائلاً يصف أحاديث نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله): "تلك هي صفات أهل الجنة، يدخلون الجنة بغير حساب قلوبهم مثل أفئدة الطير".
فإن طول الزمن قد يخفف من رقة الشعور، وتطاول الأيام قد ينسي بعض القيم، وتقادم العهد قد يغير المشاعر القلبية فيزيد قسوتها ويضع غشاوة حمراء على الأبصار فتخفي كل ماهو طاهر حتى تصبح معالم القسوة هي المعتاد لكثرة تواردها على الناس واعتيادها في أزقة الروح، ما لم يتعهد المرء أن يجلو قلبه، ليبقى حاضر الفكر، واعي القلب، يقظ الإحساس، ولأن اللين ظاهرة سلوكية تنبع عن قلب لين وهو صورة من صور الرحمة يضعها الله في قلب العبد، فقد ذكره في قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ).
فجميع العلاقات بشتى روابطها، ينبغي أن يسودها الرفق واللين للمحافظة على تماسك الأسس الاسلامية وصفاء الانسانية، كما في الحديث: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق)، فالشديد الغليظ، الغاضب العنيف، صورة مشينة معيبة تنفر منها الطباع البشرية، بينما صورة السهل الرفيق، اللين اللطيف، صورة تزين صاحبها، وترتاح إليها النفوس، وتأنس إليها القلوب، ذلك أنه يعلم سبحانه وتعالى ما تحوي القلوب والصدور، وبما أنه الشديد الرحمة والمغفرة، فإنه لاشك يحب أصحاب القلوب اللينة القريبة، لأنه إذا صلح القلب بالتأكيد سيصلح باقي الجسد، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).
وحتى الرحمة بالمخلوقات من أسباب استحقاق رحمة الله في الآخرة، والعلاقات الأسرية مع الأهل وذوي الرحم، ينبغي أن يسودها الرفق واللين، للمحافظة على تماسك بنيان الأسرة وصفاء أجوائها، فما نتاج غليظ القلب إلا الوحدة المعتمة بعيدا عن من يأنسوه، فيقول تعالى مخاطبا رسوله (صلى الله عليه وآله) ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: (فَبِمَا رَحمَةٍ منَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظا غَلِيظَ القلبِ لَانفَضوا مِن حَولِكَ).
اضافةتعليق
التعليقات