سواد قاتم يرسم وشاحا على بصيرة أسياد قومهم فيجعل عاليهم أسفل مايكون ويتسلل الخوف عله مقربة من بقية الرعية يمد أيديه على أقدامهم ثم يدقها بمسامير البشاعة حتى لا تعبر أسوار الجُبن وتبقى على ميسرة النار بينما لا تبعد عنهم الجنة سوى خطوات فيصلها جملة: (لبيك ياحسين)، نفحة من الله تكونت على هيئة سلام في النفس البشرية ترشد إلى سبل الهداية بواسطة بيانات داخلية منذ نشأتهم، حيث تكونت بالفطرة وتوجه الإنسان نحو الصلاح، فمنهم من يوظف تلك الفطرة، ومنهم من يقضي عليها شيئا فشيئا.
الرسالة في بصيرة النصير
إن الخالق (سبحانه وتعالى) جعل الصفات الحميدة شيئا يدركه الإنسان بالفطرة ولا يحتاج إلى برهان ولا عمل ليثبته، مثال ذلك النصرة، فهي تولد مع الإنسان وتلازمه وهو المسؤول الأول عنها وعن وجهتها التي تتجه إليها، فإما أن تنصر الحق أو تنصر الباطل، وقد تتوسع مصاديق النصرة وأشكالها فمرة تكون بالكلمة، ومرة باليد والنفس، وأخرى بالأموال أو بإحياء القيم، وأشرف وأجل صور النصرة هي تلك التي تكون بالنفس، إذ بها يتحقق معنى النصر الحقيقي، وهذا ما شهدناه جليا في واقعة كربلاء من الذين نصروا أئمتهم بأنفسهم وأرواحهم، أولئك الذين اصطفاهم الله وحباهم واختارهم ليكونوا موالين محبين لمحمد وآله فتسجل أسمائهم بحبر مخلد يفصل بين الثرى والثريا، أناس أشبه بالملائكة ربانيون من عباد الله يتميزون بأنهم لا يمارسون نشاطا، إلا ابتغاء مرضاته فيتقبل الله قرابينهم ويسجل كل خطوة ودعاء لهم شفاعة تحمي حاملها يوم الورود، فما إن اشتد القتال حمل كل منهم روحه بين كفيه في سبيل احياء الدين لتكون معركة كرامة وحياة، تفيض بالعطاء وتتجلى فيها المواقف الإنسانية على مدى التاريخ جسدت ملحمة الحق وانتصار الخير على الشر.
فلم تكن واقعة كربلاء مجرد معركة بين فئتين محددة بزمان ومكان معينين بل هي مدرسة متجددة في كل زمان ومكان بما قدمته من نماذج إنسانية عالية، من هذه النماذج الرائعة الحر بن يزيد الرياحي الذي جسد الضمير الإنساني الحي والإرادة الحرة الواعية بانتقاله من خندق الظلام إلى النور وخروجه من العبودية إلى طريق الأحرار، ليصبح رمزاً من الرموز الإنسانية الخالدة ومثالا يُحتذى به في سلوك الإنسان وتمسكه بالقيم العليا والمبادئ المثلى، حتى تمثلت أبرز مواقفه حين وصل جيش عبيد الله بن زياد إلى كربلاء بقيادة عمر بن سعد، لم يكن الحر يتوقع أن الأمور ستؤدي إلى القتال لذلك راح يسأل عمر قائد الجيش: أمقاتل أنت هذا الرجل؟
فأجابه عمر: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي.
فسأله ثانية: فما رأيك فيما عرضه عليك من الخصال؟ في إشارة منه إلى ما بينه الإمام الحسين (عليه السلام) من قرابته من رسول الله ومكانته ومنزلته.
فأتى الجواب: مصرحا ابن سعد بكفره بالله تعالى، في سبيل ملك الري في أبياته التي يقول فيها:
أأتـرك مـلك الري والري منيتي أم أصبحُ مأثوماً بقتل حسـيـن
حسينُ ابن عمي والحوادثُ جُمة ولكن لي في الري قرة عـيـنِ
يـقـولـون: إن الله خـالـق جــنــةٍ ونـارٍ وتـعـذيـبٍ وغـل يـديـنِ
فـإن صـدقـوا مـمـا يـقولونَ إنني أتوبُ إلى الرحمنِ من سنتينِ
وإن كـذبـوا فُـزنـا بـدنـيا عظيمةٍ ومـلـك عـقـيـم دائـم الـحجلينِ..
رجع الحر وهو يرتعد، لم يصدق أذنيه، هل وصلت بهم الوقاحة والجرأة لقتال ابن بنت رسول الله وسيد شباب أهل الجنة؟
سار نحو المشرعة وهو مُطرق برأسه، سأله المهاجر بن أوس: إن أمرك لمريب، والله لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فما هذا الذي أراه منك؟
فقال له الحر: إني أخير نفسي بين الجنة والنار، ثم قال وهو ينظر إلى معسكر الحسين (عليه السلام): والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو اُحرقت، ثم توجه نحو الحسين (عليه السلام) مُنكساً رأسه حياء منه وقال:
إني تائب فهل ترى لي من توبة؟
فأجابه الإمام الحسين (عليه السلام): نعم يتوب الله عليك، لقد صدقت، وأصابت أمه حين سمته حراً، ولعلها كانت تتوسم في ابنها هذه الروح الحرة فكان كما قال الحسين (عليه السلام): (أنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة).
إن مسيرة الدفاع عن الرسالة تظهر في مواقف كل نصير لآل بيت النبوة، فالشخص الثاني حينما يذوب وينصهر في شخصية القائد ويدافع عنه، ويبالغ في احترامه، ونصرته، يضرب المثل الصالح للآخرين، ولما يجب أن يكونوا عليه تجاه القائد، وكيفية احترامه ونوعية الدفاع عنه، ففيما يتصل بهذا الجانب، تحتاج الأمة إلى قدوة عملية، وأرض كربلاء أورثتنا من القادة ما هم خير من نسير على خطاه علمونا أنما الدنيا زائلة وأن تكون واقفا على صراط يفصل بين أن تكون مؤمنا أو لا هنا يجب أن تكون عارفا ماذا تختار ونصيرا لمن، فالنصرة هي أن تفعل بقولك (لبيك ياحسين) وتلبيه في استمرار رسالة الحق على أفضل وجه وأحسن صورة فلا تكون متأرجحا بين أن تكون ممن يطمع بملك الري أو أن تكون حرا فتسير نحو الحق دونما خوف.
اضافةتعليق
التعليقات