من الخطأ الكبير قراءة مقامات علي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) الاصطفائية في "غدير خم"، بمعنى الخلافة والإمامة والوصاية فقط، فَنصفه أنه إمام ووصي وخليفة دون النظر إلى ذروة وأعلى مقاماته ومنازله الشريفة.
فقد نبّه إلى ذلك الإمام علي بن موسى الرضا (صلوات الله وسلامه عليه)، عندما سأله المأمون العباسي يابن رسول الله أي فضيلة أعظم وأكبر لعلي في القران، قال الإمام في (وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ)(1).
أي أن ذروة مقامات أمير المؤمنين وأعلاها منزلة حسب بيانات الإمام الرضا هي "نفس وأخي رسول الله"، وهذه عين مفاد قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): {أَنْتَ مِنِّي بمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى، إِلَّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي}، التي صدرت وبتواتر عنه في مواطن عديدة، مثل يوم الدار "يوم المنزلة" أي في بدايات عهد الإسلام "{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ} (2)، التي فيه جهر رسول الله بدعوته وأنذر عشيرته وخواص بني هاشم وأطلعهم على مقامات أخيه علي، لاسيما مقام
"أخوته معه"، التي جعلها مقدّمة
على جميع المراتب في وصاياه في ذلك اليوم، وهي عين ما وصى به في يوم الغدير، أي "أن مَن يشاركه في عبء الرسالة والدعوة له مقامات يكون أخي وولي ووزيري ووصي ووراثي وخليفتي.."، فجعل رسول الله هنا مقام "أخي وشريكي في أمري" في مقدّمة وأول المراتب.
فقد آخَى رسول الله عليًا (صلوات الله عليهما وآلهما) في أكثر من مرة، في المدينة المنورة وفي مكة المكرمة وفي أحد وفي مواطن أخرى.
و "الإخوة" هنا، لا يقصد بها "الإخوة البدنية"، إنما هي "أخوة روحية ومعنوية ونورية"، منبعها واحد حسب عوالم النور وعوالم الأرواح، وهي تعني بمعنى "شقيق" أي تنشق الحقيقة إلى شطرين ، وإن كان أحد الشطرين مُقدّم على الآخر ، فسيد الأنبياء مُقدّم على سيد الأوصياء أمير المؤمنين، وما بينهما هو أخوة ومشاطرة ومشاركة في حمل أصل البعثة والدعوة والرسالة ، التي حملها اثنان رسول الله وأخو رسوله "علي "صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما'.
فعلي إذن أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الرسالة، وفي العلم اللدني، وفي مقام الشهادة على أعمال العباد {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا}(3)، وأخوه في ولاية الطاعة المفروضة على الأنبياء، كما يشير إليه مفاد تلك الآية الشريفة {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ ..}.(4)
وبمقتضى هذه الإخوة وهذا الجعل التكويني والنوري لنفس وروح النبي ، تحققت لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه جميع المقامات الاصطفائية التي هي لسيد الأنبياء ما عدا أمر النبوة، فمنذ أن بُعث محمد "رسولا" بُعث أمير المؤمنين "بعلم الولاية"، ولم يفترقا زمنًا عن بعضهما للحظة واحدة ، وذلك بنص من القرآن الكريم "وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي. وهَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي "(5) ، التي قال فيها أمير المؤمنين لمِا لا يَبصرون العظمة في هارون، فالعظمة ليست نبوة هارون مع موسى، إنما العظمة في شأن هارون هو "إخوته" و"شراكته" مع النبي موسى. وهو عين حال أخوة النبي مع علي .وقوله لعلي أمير المؤمنين (إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر) (6) خير دليل وبرهان على أخوتهما وشراكتهما وثنائيتهما معًا في كل شيء.
وهذا ما جاءت به الروايات المستفيضة والمتواترة عند الفريقين وما كشفته عن هذه الأخوة والشراكة والثنائية بين سيد الأنبياء وسيد الأوصياء ، التي هي فوق مقام ومنزلة الإمامة والوصاية والخلافة والوراثة ، في ذلك الموقف الإعجازي الخارق العجيب لعلي (صلوات الله عليه)، وفي محضر من رسول الله ، وعلى مشهد ومرأى كبير من الصحابة والمسلمين، والذي فيه كشف رسول الله عن ارتباط علي الخاص "بالغيب والوحي" و "مناجاة الله تعالى" وهو فوق جبل الطائف العارم، الذي سُمِع منه "صريرٌ مهولٌ" أبهت كل العقول، ونقرأ ذلك في موثق صحيح حمران بن أعين "وهو من أصحاب الإمام الباقر والصادق (صلوات الله وسلامه عليهما): " قلت لأبي عبدالله الصادق : (بلغني أن الله تبارك وتعالى قد ناجى عليًا عليه السلام قال أجل إن الله تعالى ناجاه بالطايف وغيرها ونزل بينهما جبرئيل )(7).
وجاء في رواية أخرى: (..فقال أصحابه "حسدًا أو كذا" ناجيت عليًا عليه السلام من بيننا "فلماذا تميزه" وهو أحدثنا سنًا فقال النبي ما أنا أناجيه بل الله يناجيه)(8) .
وبإسناد عن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأهل الطايف لأبعثن إليكم رجلًا كنفسي يفتح الله به الخيبر ، سيفه سوطه فيشرف الناس له فلما أصبح ودعا عليًا عليه السلام فقال اذهب بالطايف ثم أمر الله النبي (صلى الله عليه وآله) أن يرحل إليها بعد أن رحله علي (عليه السلام) ، فلما صار إليها كان على رأس الجبل فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) أثبت فسمعناه مثل صرير الرحى فقال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما هذا؟ قال إن الله يناجى عليًا عليه السلام).(9)
فمن يجهل تلك المقامات الاصطفائية لعلي بن أبي طالب "ركن الأولياء" و"عماد الأصفياء "و "سيد الأوصياء " و" الصديق الأكبر" ، لا يمكنه ان يميز بين أخوته البدنية" و "أخوته النورية والروحية مع النبي ، فيصبح في "حيص بيص" في دينه ومعتقده، كما هو حال تلك المرأة التي سألت النبي (صلى الله عليه وآله)، اذا كان عليًا أخوك فكيف تزوجه ابنتك، أجابها النبي علي أخي في الروح والنور وليس في البدن، فالفرق كبير بين الاثنين، كما هو عين مفاد حديث رسول الله "المؤمن أخو المؤمن" أي أخوة في الروح وليس في البدن.
إذن عليٌ هو المحور وهو الدعامة وهو الأساس في كل شيء بعد الله تعالى وبعد رسوله، لجميع الأولياء والأصفياء ولجميع المخلوقات، ولا يستحق ذلك إلَّا علي بن أبي طالب، فلا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى، ولا جبرائيل ولا عزرائيل ولا ميكائيل ولا إسرافيل، ولا حتى العرش ولا القلم ولا الكرسي..
فمن مثلك في الوجود يا أبا الغوث علي؟.
-----------
1. 61 آل عمران
2.الشعراء - 214
3.الأحزاب 45
4. 81 آل عمران
5. 24 طه
6. نهج البلاغة ،السيد الشريف الرضي ج1 ،ص 475)
7. بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - الصفحة ٤٣٠
8. " بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - الصفحة ٤٣٢
9. بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - الصفحة ٤٣٢
اضافةتعليق
التعليقات