يرسوا بجفني حرمان يستبيح دمي، وينتشل من عمق الروح ابتساماتي، فتثور في خاطري مشاعر متنافرة منها تقودني نحو انعزال شديد بالنفس وأخرى تشدني لأكون ضمن ضجة تضيع فيها بحة صوتي فأهرب من مشاعري المتناقضة، وكلما شعرت أنني بحاجة لأبقى وحيدة تأكدت أنني بحاجة لأقرأ كتاب فلا يستقيم عود الذات إلا بالعزف على وتر الصفحات الشبيه بلوحات فان كوخ البائسة تارة وتارة أشبه بروما الجميلة التي تؤدي كل الطرق إليها فتروي سعادة تلمس أنامل الحياة.
وأنا على يقين أنكم تتقاسمون معي ذلك بشكل أو بآخر وقد مررتم بشيء مشابه خلال فترات حياتكم بعضكم تجاوزها والبعض الآخر ما زال ينتظر شيء ما عجيب ينقذهُ منها، فالكتب توفر شكلاً من أشكال الهروب أكثر من أي عمل فني آخر، شفاء الروح ودواء للنفس.
"ليست الكتب التي تقدم المساعدة الذاتية وحدها هي التي تحسن من حياتنا ورفاهيتنا، لكن كتب القصص والروايات أيضاً يمكن أن تفيد بدورها في علاج العديد من أمراضنا"، هذا ما أكده الكاتب هيفزيباه أندرسون في مقاله الذي ورد على موقع بي بي سي.
صحيح أن الكتب لا تصنع المعجزات، ولكن الروايات بإمكانها أن تقدم المعلومات والقصص التي تعزز وتحفز التفكير الذاتي، أما الشعر فقد تبين أنه يشغل أجزاء من العقل ترتبط بالذاكرة.
وقد اعتبر أرسطو أن الشعر، الذي يُقصد به الخيال بشكلٍ عام، أكثر جدية من التاريخ ذاته، ففي حين أن المؤرخ منهمك بما حدث، فإن الخيال يسمح لنا برؤية ما يمكن أن يحدث، وعليه في بعض الأحيان يتمكن المؤلف من أن يساعدنا بمجرد أن يصرف ذهننا عن مشكلة ما، ويجعلنا منغمسين كلياً في عالم شخص آخر.
فنحن نفكر في الروايات كأماكن نفقد فيها ذاتنا، ولكن عندما نخرج منها نأخذ معنا الإلهام من شخصياتنا المفضلة والأقرب إلينا فالقراءة شكل من أشكال العلاج النفسي، نشعر أحياناً بأن حالتنا تشبه حالة إحدى الشخصيات الموجودة في الكتاب، وبالتالي نحاول البحث من خلال الصفحات على حلول قد تساعدنا في حياتنا الشخصية، حيث تثير شخصيات الماضي الذي اختبرناه والصراعات الشخصية التي لم نتمكن من حلها برؤية الأمور بصورة أوضح وأياً كانت المشكلة التي نجد أنفسنا فيها، هناك دوماً كتاب يذكرنا بأن أناساً قبلنا عايشوا هذه التجارب، وأن الأمر يتعلق فقط بالعثور على الكتاب المناسب، فلا تزال الكتب أفضل وسيلة للحصول على العلم والمعرفة، ولا يستطيع أن يستغني عنها طالب أو معلم أو مثقف، وليس أدل على قيمة الكتاب من أن أول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
ثم أقسم الله سبحانه بالكتاب تنويهاً لرفعته وبياناً لأهميته فقال:
﴿وَالطُّورِ ٭ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ٭ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ﴾، وقد حذر الله تعالى من الإعراض عن الكتب القيمة، وأمر بتدبرها وامتثال أحكامها، وشبه المعرض عنها الذي لا ينتفع بها بالحمار الذي ينوء بحمل كتب كثيرة، ولا يعقل منها شيئاً، ويذكر أن أول منّة منّ الله بها على ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود كانت نعمة القراءة، فإنك بمجرد أن بدأت بالقراءة، فأنت تمتثل للأمر الإلهي ﴿إقرأ﴾، وهو أول ما نزل على قلب النبي صلى الله عليه وآله، وللكتب أبواب عدة وكل باب منهم علاج لنفس مرهقة، بعضه يزيدك دين وحكمة وبعضه يرفه عن النفس فيزيل عنها الوهم والألم.
ولو غصنا في رحاب النفس والدين سنجد أن الأئمة الأطهار تركوا لنا من الأقوال ما تعدت أواصرها الكتب ومنها ما ترجمته أيدي الأولياء وأصحاب المسؤولية والعلماء فيأخذك كل منهم في كتابه إلى عالم عظيم يرفع مكانة الإنسان ويجعله في سماوات المعرفة طير لا يحد جناحيه شيء، ولو بحثنا في كتاب ينتشلنا من غور الحقد والكراهية حتماً سنجد أول الكتب التي تمتثل أمامنا كتاب "السماح بالرحيل" لديفد هاوكينز.
ولو التمسنا عالم من الخيال مرصع ببعض المعرفة التي تحرك ساكن العقل وتأسر أواصر القلب فسيخرج من بين آلاف روايات الخيال رواية احتلت في قلبي مكانة خاصة برهنت على أن العقل هو أغلى ما يمتلكه الإنسان "أرض زيكولا" لعمرو عبد الحميد.
وكثيرة هي المؤلفات التي تهيء للإنسان ملجئاً يقيه من سؤال الناس عن ضيق ويرسم له مخارج ليأس انتابه فجعله يأوي إلى عزلة تزيد الهم وتكثر الغم وترسم التجاعيد فيكبر الإنسان في ساعات الحزن أياما، وعلى غرار تناول الطعام الصحي وممارسة التمارين الرياضية للحفاظ على الصحة البدنية، فإن القراءة تقوي عضلات العقل ويمكن أن تساعد على الاسترخاء بعد يوم طويل ومرهق، فاليوم أصبحت القراءة والتعلم ليس واجباً وطنياً فحسب بل واجباً دينياً أيضاً، وعلى الشباب واليافعين الإحساس بهذا الواجب المقدس أكثر من أية شريحة إجتماعية أخرى، فإذا استأنس أحد بالكتاب لا تكون القراءة واجبا شرعيا فحسب بل عملا حلوا وعذبا وحاجة ماسة وغير قابلة للتأخير ووسيلة لإصلاح الشخصية الإنسانية.
اضافةتعليق
التعليقات