غاب عن بيت الرسالة نبضه الدافئ وانطفأت شمعته النيّرة !فما من همسة مواساة، ولا لمسة حنان !تهيمُ التساؤلات في فضاء الأحزان؛ تسأل عن طيفِ أول المصليات في فناء البيت
عن قلبٍ يفيضُ حبا، ويدٍ تجود سخاء، ولسانٍ يلهجُ بالشكر والثناء .
عن روح تشدُّ عضد الرسالة، وتؤازر دعوة السماء .رحلتّ أم الزهراء.. سكن الرسول وملاذ النبوة .
لقد وصف القرآن الكريم نبي الله إبراهيم عليه السلام بأنه أمة؛ حيث كان يمثل خط التوحيد في زمانه، وكان المثال الذي يُحتذى به، والجماعة في صورة الفرد، وهكذا كانت السيدة خديجة عليها السلام أمة من الناس، انطوت شخصيتها على سمات وخصائص عجزت النساء أن يتصفن ولو ببعضها !
في الجاهلية كانت سيدة نساء قريش، وكانت تُلّقب (بالطاهرة) في وسط يعجّ بالآثام، ثم كانت قرينة سيد المرسلين وأم أبنائه، ووزيرته، ومستودع سرّه، وسيدة أمهات المؤمنين .
انحدرت السيدة خديجة من أسرة أصيلة، لها مكانتها وشرفها في قريش، وكان آباؤها موحّدين على دين إبراهيم عليه السلام؛ فلا غرابة أن تكون أول المصدّقات بدعوة النبي صلى الله عليه وآله، وأول من صلّى معه، وثالث ثلاثة على دين الله في مجتمع يموج بالشرك والوثنية، كما ورد على لسان الإمام علي عليه السلام: (ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله، وخديجة، وأنا ثالثهما)، ولقد كان مشهدهم وهم يصلّون في فناء الكعبة على مرأى من قريش، يثير الاستغراب، فيردّ العباس بن عبد المطلب على أحد المتسائلين:
(والله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة) !.
وقبل أن تكون السيدة خديجة أول المصدّقات بالدين الخاتم عاشت شغف الانتظار، تتطلع بلهفة إلى اليوم الموعود، وتترادف البشارات على روحها المرهفة، حيث تذكر الروايات أنها سمعت من بعض اليهود أن محمدا نبي آخر الزمان؛ فتعلق قلبها به، إضافة إلى ما كانت تسمعه عن شخصيته الفذة، وصدق حديثه، وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه؛ ولعلّها كانت تهدف من وراء اختيارها له ليكون مضاربا لها في تجارتها، وإرسال غلامها ميسرة معه أن تختبر سلوكه عن كثب، فنقل لها ميسرة مشاهد من رحلته الإعجازية مع الفتى الهاشميّ ما جعلها تزداد به إعجابا وتعلقا؛ ووجدت فيه الزوج المثالي، والرجل الكامل الذي اختارته السماء ليكون رجل المرحلة القادمة لينقذ العالم من وحل الجاهلية، ومستنقع التخلف والتعاسة .
لقد رغبت بالاقتران به غير عابئة بالفرق الشاسع بين حياتها المرفّهة وحياته البسيطة، بل هي التي خطت نحوه الخطوة الأولى، وعرضت نفسها عليه متجاهلة الموروث القيمي للمجتمع الذي تعيش فيه؛ حيث بعثت إليه صلى الله عليه وآله من يبلّغه رسالتها قائلة: (يا ابن العم، قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك ووسطك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك) .
وتذكر بعض الروايات أنها اقترحت أن يكون المهر من مالها، وعندما تمّ العقد المبارك دعته بكل تواضع إلى بيتها بقولها: (إلى بيتك، فبيتي بيتك، وأنا جاريتك) .
لقد سعت إليه بإخلاص ورغبة مشفوعتان بتلك القناعة الراسخة بمستقبله الزاهر المشرق، حيث ستنطلق من بيتها أعظم دعوة في تاريخ البشرية لذلك كانت ترفض كل من تقدم لخطبتها من الرجال لأنها لم تجد في أحدهم كفئا لها؛ وهذا يؤيد الرأي القائل أنها عليها السلام لم تتزوج برجل قبل النبي صلى الله عليه وآله .
وهكذا اقترن أعظم الرجال بأعظم النساء، ليؤسسا معا بيتا مبنيا على المبادئ الرائدة، والقيم العليا، بيت يغمره الحب، والسعادة، والحنان، والدفء العائلي، والتفاهم؛ ليعيش النبي صلى الله عليه وآله أروع حياة مع امراة لا تشبه نساء الأرض، امرأة عاقلة، لبيبة، حكيمة، حنون، صابرة، لا حدود لقدرتها على العطاء والتضحية، وبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل الأهداف السامية التي يسعى لتحقيقها، مستعدة لمشاركته رحلة الدعوة بما يكتنفها من مشاكل وعقبات، وجهاد وصبر، بعد أن عاشت معه إرهاصات النبوة، وبشائر الدعوة الآتية، وكانت تبشّره بقولها: (أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث)، وتوفر له مؤونته في خلواته عندما كان يعتكف للعبادة في غار حراء، تحترم تلك الخلوات، وتنتظر عودته بصبر العاشقين ولهفتهم أياما طويلة بلا ملل أو تذمر .
وبعد البعثة قادتها بصيرتها النافذة، ومعرفتها الراسخة لأن تكون أول المؤمنات بالرسالة الخاتمة، ولتبدأ معه مسيرة الجهاد والتصدي، فوهبته ثروتها الطائلة راضية سعيدة، وسخّرت كل طاقاتها لخدمة الدعوة قائلة: (جميع ما أملك بين يديك وفي حكمك، اصرفه كيف تشاء في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه) .
وهكذا عاشت السيدة خديجة المحنة العسيرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، في مواجهة قريش الطاغية المستبدة، مرورا بالحصار الشرس الذي أنهكها وأوصلها إلى حافة الرحيل، وكانت تؤازره على أمره، وتخفف عنه، وتهوّن عليه؛ فما كان يسمع شيئا يكرهه من ردٍ، وتكذيبٍ؛ فيحزنه ذلك إلا فرّج الله ذلك عنه بها، وكان صلى الله عليه وآله يسكن إليها، ويشاورها في المهم من أموره وكانت له نعم العون، والوزير .
وقد قابل صلى الله عليه وآله هذا الحب وهذا التفاني بما يستحقان من حب ووفاء وإخلاص لم يفارق قلبه الكريم حتى بعد رحيلها؛ فكان يبكي عندما يتذكرها، ويثني عليها، ويعدّد فضائلها، ويعبّر عن عمق محبّته لها، ويزجر بغضب إحدى زوجاته التي تذكرها بسوء!
ومما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (أفضل نساء أهل الجنة، خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون) .
لقد كرّمها الله تعالى بأن أرسل إليها سلامه المقدس مرارا وتكرارا عن طريق جبرئيل عليه السلام، وكانت تقول في الجواب: (إن الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام)، وإنه تعالى يباهي بها ملائكته كما قال صلى الله عليه وآله: (يا خديجة إن الله - عز وجل - ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا)، وقد بشّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
بل لقد حباها الله تعالى بالعطاء الأعظم، والمنّة الكبرى؛ بأن جعلها الزوجة الوحيدة التي أنجبت الذرية لسيد البشر وصفوتهم؛ فكانت وعاء لمشكاة الأنوار، وأم الأئمة الأطهار، والحضن المبارك الذي فاض منه معين الكوثر ليملأ الدنيا نورا وخيرا وقداسة .
اضافةتعليق
التعليقات