من أجل شحذ الهمم واتقان العمل، وتوجيهها نحو واجباتها ومسؤوليتها التي تقع على عاتقها عقد اجتماع الكتروني للنساء الفاعلات في المجتمع وبتوجيهات من سماحة الشيخ مرتضى معاش وذلك في يوم 13 شوال الموافق 24/ 5/ 2021 م عبر منصة الواتساب.
جاء الملتقى تحت عنوان (لكي نعيش بصدق) حيث دار موضوع الملتقى حول كيفية الوصول إلى الواقع وادراكه والابتعاد عن الوقوع في الواقع المزيف من خلال تحليل مفهوم الصدق ومعناه ومؤداه، مستفيداً من سيرة سماحة المرجع الراحل آية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي موصياً بالتعلم وأخذ العبر من حياته لحياتنا.
الصدق وادراك الواقع
وابتدأ سماحته الحديث بهذه الآية الكريمة:
(يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
الصدق من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها المنهج الأخلاقي وعنصر رئيسي في هذا المنهج فالأخلاق تقوم بالصدق، وكذلك الإنسان الصادق يقوم بالأخلاق وتقوم أخلاقه بالصدق بل أن الصدق هو تعبير عن كل القيم الأخلاقية من حيث المبدأ ومن حيث النتيجة فإذا أحرز الإنسان تمام الصدق من الكلام إلى السلوك إلى التفكر والتعقل والتدبر والتأمل فإنه قد أحرز كل القيم الخيرة في نفسه..
والصدق من حيث النتيجة يعني فهم الطرق التي تؤدي إلى إدراك الواقع، فالواقع هو الذي يجعلنا نعيش بسعادة وحقيقة وادراك ماهو طيب حقيقة في هذه الدنيا، والواقع هو الوجود الحقيقي في هذا المكان وهذه الدنيا لذلك نلاحظ إن هناك فرق بين الدنيا من حيث المادة والدنيا من حيث المعنى، فالواقع هو التكامل الذي ينشأ بين المادة والمعنى، لذا نلاحظ بعض الناس يعيشون حياة مادية مرفهة جداً ولكن في نفس الوقت نلاحظهم يعيشون في شقاء، وكلما يحاولون الوصول إلى حياة سعيدة خيرة تراهم يبتعدون، لأنهم متمحضين في العيش المادي وحب الدنيا وفي الحديث (حب الدنيا رأس كل خطيئة) ولكن في الدنيا هناك أشياء جيدة، هناك السعادة والخير، والصلاح، وهذا هو الواقع الحقيقي الذي يتم ادراكه من خلال التفكر والتعقل والتدبر حتى يكون قادراً على الوصول إلى النعم الحقيقية في الدنيا.
ولتوضيح هذا المعنى نرجع إلى الآية القرآنية (ياأيها اللذين آمنو إتقوا الله وكونوا مع الصادقين) الإيمان والتقوى هو في الدنيا، والصادقين هي النتيجة التي توصل إلى ربح الدنيا وبالتالي ربح الآخرة.
فالإنسان لكي يصل إلى الواقع الذي يعني الغاية والنتيجة النهائية لابد أن يكون مؤمنا ولا يكفي الإيمان بل لابد أن يكون متقياً ويسير في طريق التقوى ويحرز ملكة التقوى، وملكة التقوى تحرز من خلال الورع عن محارم الله وهي ممارسة يمارسها الإنسان للوصول إلى ملكة التقوى، ومع التقوى يسير الإنسان في طريق فهم الواقع وإدراكه، لكي يكون في النهاية صادقاً في الدنيا وفي الآخرة.
بعض الناس قد يكونون صادقين في كلامهم ولا يكذبون لكنهم عاجزون عن إدراك الواقع وفهمه، هو صادق لكن يقع في المشكلات والأزمات ويعيد تكرارها والسبب في ذلك هو التعامل السطحي مع الأمور وعدم توفير أسباب التوفيق لأنهم لا يسيرون في طريق الأسباب والمسببات، فإدراك الواقع لايكفي أن يكون صادقا في كلامه، بل لابد أن يكون صادقاً من خلال العمل بالأسباب والمسببات، ومن خلال التدبر والتفكر والتعمق، وفي الحديث عن الإمام علي عليه السلام يقول (فلما رآنا الله صدقاً صبرًا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر).
الصدق هنا يعني توفير الأسباب والمسببات فيحصل على التوفيق والنجاح والنصر.
فالصدق هو الواقع فكيف نصل الى إدراك الواقع وفهم الطرق التي تؤدي إليه؟
هذه بعض الطرق حيث نستفيد من سيرة المرجع الراحل الإمام الشيرازي كنموذج وأسوة نتعلم منها كيف نعيش بصدق.
أولاً: نبذ العنف المطلق
نبد العنف المطلق للوصول إلى إدراك الواقع هو من الطرق التي تؤدي بنا إلى إدراك الواقع، فالمشكلة في العنف أنه يؤدي إلى تدمير الذات وتدمير الذات الأخرى، وتدمير الآخر مما يؤدي إلى استنبات مختلف الرذائل الأخلاقية مثل الخوف والحسد والطمع، ويتلوث المجتمع بسبب العنف وظهور هذه الرذائل، لأن العنف بحد ذاته هو منتج للمفاسد، فيتفطر المجتمع ويتصارع بسبب الهشاشة التي يرسخها العنف، فيتحول إلى كذب ضد الواقع وصناعة الواقع المزيف. فالعنف يؤدي إلى الخوف والخوف يؤدي إلى الكذب ويؤدي إلى النفاق، لذا ترى هذا الانسان الذي يمارس العنف والمجتمعات التي يستوطن العنف بها تعيش مهزوزة متخلفة هشة غير مستقرة. وفي المقابل فإن التربية على اللاعنف مطلقا يقود إلى بناء انسان مستقيم قوي النفس غير معطوب ذاتيا وبالتالي يؤدي إلى وجود مجتمع مسؤول مسالم.
والبعض يتصور إن العنف من أنواع القوة المنتصرة، ولكن القوة الحقيقية ليست بالعنف بل بالصدق والسلام واللاعنف والعفو وكظم الغيظ والحلم، هذه عناصر كلها تمثل معنى القوة المؤثرة في العمق ايجابيا، فالعنف هو الضعف بحد ذاته، وضعف الإنسان في قدرته على معالجة الأمور وادارتها بشكل جيد لجهله وتقصيره وكسله وأنانيته وسيطرة غرائزه عليه فيؤدي إلى العنف، وحصد النتائج غير الجيدة، وكذلك إلى بناء ذات هشة وانسان مهزوز ونفس غير مستقرة.
الامام الشيرازي واللاعنف المطلق
الإمام الشيرازي رحمه الله طرح مبدأ اللاعنف كثيراً في كتبه، وكانت سيرته حافلة باللاعنف المطلق لأنه أدرك أن الإنسان الصالح الناجح المؤمن المتقي هو لاعنيف، ينبذ العنف ويعتبر الطريق نحو التربية الصالحة وبناء المجتمع الصالح وبناء التقدم في الأمة كلها عن طريق اللاعنف، لأن العنف في النتيجة يؤدي إلى الصراعات وإلى حروب أهلية داخلية، وإلى صراعات في داخل الأسرة، وإلى صراعات في الشارع عبر تخزين كل أنواع الغضب والكراهية.
وقد كان الإمام الشيرازي بنفسه ممارسا للاعنف ويتعامل مع الصديق والعدو باللاعنف والسلام، ويؤكد على هذا الفكر في كتبه بشكل كبير جدا، مثل كتاب اللاعنف في الإسلام والسبيل إلى إنهاض المسلمين وممارسة التغيير، ويركز فيها منهجيا على اللاعنف لأنه يعتبر العنف هو طريق للاستبداد ولتدمير الأمة. فالمستبد يمارس العنف حتى يسيطر على الأمة، ويسيطر على السلطة ويبقى ينشر العنف بين الناس حتى يكونوا متشطرين ومتصارعين ومشتتين والغضب والكراهية تسيطر عليهم.
فالعنف هو طريق كاذب وسلبي يؤدي إلى تضعيف المجتمع وتضعضع الانسان، لكن التربية على اللاعنف في الأسرة والمنزل والمجتمع يقود إلى بناء انسان مستقيم قوي غير معطوب ذاتيا وبالتالي يؤدي إلى وجود مجتمع مسؤول ومسالم. فالإنسان عنده عقل لذلك عندما يفرض عليه بعنف يرفضه عقله ولكنه يقبله اكراها بسبب الخوف، وتسلب ارادته واختياره وحريته وتجعله انسانا مستعبدا وهذا هو أم المصائب التي نعيشها في بلداننا.
ثانيا: سعة الصدر على الرأي الآخر وتقبل النقد
الشرط الثاني من الطرق التي تؤدي إلى فهم الواقع هو الصبر على الآخرين وسعة الصدر على الرأي الآخر وتقبل النقد، فكل هذه القضايا تؤدي إلى تراكم القدرة عند الإنسان على الفهم والوصول إلى إدراك الواقع، وكذلك عدم العمل بهذه الشروط سوف يؤدي إلى أحادية الرأي والوقوع في الأخطاء وتغول نرجسية الذات لتصبح الآراء الذاتية أوهاما يخترقها الخيال الذاتي فيحولها إلى حقائق هي كاذبة، لكن الآراء الذاتية تضخم فيه هذه النرجسية ويؤدي إلى أن أفكاره الموهومة يعتبرها حقائق لا يقبل النقاش بها. والمشكلة أن البعض يرفض النقد ويغضب منه ويستبد برأيه وهذا يؤدي إلى تراكم الأخطاء والانحرافات.
الحقائق الأصلية الواقعية هي التي يمكن أن تأتي من خلال التداول الفكري والحوار الموضوعي مع الآخرين والإصغاء إلى الآخرين والإنصات إليهم بفهم وتأمل، وهذا التداول الفكري مع الآخرين والحوار المنفتح سوف يؤدي إلى أن الإنسان يتمحص ويتفحص الآراء ومن خلال التداول يمكن له أن يصل إلى فهم الواقع، يقول الإمام علي (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها).
فلابد للإنسان أن يكون صدره واسعا للاستماع إلى الرأي الآخر الناقد، لأن النقد هو محاسبة للنفس من نوع آخر، فمحاسبة النفس واجبة على الإنسان وأفضل المحاسبة هو أن يحاسب نفسه من خلال الآخرين وتقبل نقدهم، فإن كان النقد صحيحا فإنه مفيد للإنسان وهو نوع من تراكم الخير وتراكم المعرفة عنده، وإن كان غير صحيح فهذا يدل على سلوك عظيم نبيل عند الإنسان في التعامل مع الآخرين فلايكون منغلقا على ذاته يرفض النقد ويكون حساسا، ومشكلة الحساسية هي أنه أي شخص ينتقد الآخر يعتبر هذا نوعا من الاستهداف الذاتي والهجوم على شخصيته وجرحها، وهذا من الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها الإنسان في عدم تقبل النقد وبالتالي لا يتجرأ الآخرون على التكلم والتحاور معه لأنه يرونه غير متقبل للنقد فيبقى على خيالاته ويعتبر الأفكار التي عنده هي حقائق، وبالنتيجة تراكم الأخطاء وصناعة واقع مزيف، وكثير من الناس نراهم يعيشون في واقع مزيف لأنهم لايتحملون الرأي الآخر ولا يتقبلون النقد.
الامام الشيرازي وانفتاحه على الآخر وتقبله النقد
وقد لاحظت أنا من خلال سيرة الإمام الشيرازي تقبله الكبير للنقد من الصغير والكبير وكان منفتحا على الآخرين مهما كان هذا الشخص فكره أو طريقته أو حزبه أو فئته، ويستقبل الرأي الآخر ويقرأ للآخرين ويقرأ مختلف الكتب وهذا من خلقه العظيم.
فعندما كان أحدهم ينتقده لايقول له لا، بل يحاول أنه يفهمه بشكل جيد، ويفهم رأيه ومن ثم يحاول أن يستفيد من رأيه إن كان رأيه صحيحا.
كذلك لاحظت في سيرة الإمام الشيرازي من حيث التعامل مع الآخرين انفتاحه على الناس بشكل كبير من مختلف الفئات الاجتماعية المثقفين والأكاديميين والعلماء ورجال الدين والكسبة والتجار، يجلس مع الجميع يستمع لآرائهم، لكن بعض الناس تراهم فقط هم يتكلمون ولا يسمحون للآخرين بالتكلم، وإذا تكلم الآخر نلاحظه لاينصت إليه، ونرى البعض يتكلم ويحكي لكن عندما يتكلم الآخر يحمل هاتفه ويتصفح الهاتف وهذا خطأ كبير يدل على عدم احترام الآخرين.
الإمام الشيرازي كان يجلس مع الناس ويستمع لهم وإلى مشاكلهم وإلى آرائهم وإلى أفكارهم الشباب الصغار الكبار، وهذه كانت ميزة كبيرة جعلته يفهم المجتمع بشكل جيد ويفهم الواقع بشكل جيد وكان قديرا على استنباط الواقع وفهم الأسباب والمسببات وتحليل الأمور ومن ثم الوصول إلى الهدف المطلوب في عملية هداية المجتمع وتوجيههم في طريقهم.
ماوجدناه في كتبه إنه كان دائما قادرا على تحليل الأسباب والمسببات ومعرفة أسباب المشكلات ومن ثم الطرق التي تؤدي إلى حل هذه المشكلات، وكان عنده استشرافا للمستقبل حول الكثير من الأمور، وذلك لسلوكه الطيب في الاستماع للآخرين وقبول النقد والحوار معهم وهذا كله يؤدي بالإنسان أن تتوسع آفاقه ومعرفته وتتوسع قدرته على معرفة الأسباب والمسببات وبالتالي استشراف المستقبل والنجاح في حياته وفي مشاريعه.
ثالثا: الزهد
أحد العناصر الأساسية التي يمكن من خلالها فهم وإدراك الواقع، هو الزهد والعيش في عالم المعاني لإدراك جوهر الحياة وفلسفتها وعدم الاستغراق في عالم وخدائع عالم المظهر.
المشكلة تكمن في إن الكثير من الناس يتصور إنه يعيش سعيد من خلال البيت الكبير والسيارة المرفهة والأكل اللذيذ وارتياد المطاعم وامتلاك الأشياء، وأنه يعيش بسعادة إذا امتلك المال والأشياء هي التي تحقق السعادة، هذا واقع مزيف يصنعه الذهن الموهوم، وعندما يحصل على كل الأشياء يصاب بالاكتئاب لذلك الفراغ الكبير في داخله.
أزمة عالم اليوم هو شره الاستهلاك وعبادة الأشياء وحب التملك فتحولت المادية والأشياء إلى أصنام تصنع الواقع المزيف والكاذب والموهوم، لذلك نحن نلاحظ إن هذا الشرط وهو الزهد (بمعناه المعتدل وليس الصوفي) هو طريق للوصول للواقع، فالماديات تحجب الإنسان عن رؤية الواقع وتجعل الإنسان يعيش هامشيا يتصور أنه أدرك الحياة من خلال عالم المادة لكنه مخطئ، فاللاهفون وراء الاستهلاك واستملاك الأشياء يلاحظون أنه مهما تطورت حياتهم المادية يعيشون الضنك والشقاء والقلق من أن يفقد أمواله وأنه لم يحصل على الشيء الذي لابد من أن يحصل عليه، ويتملكه عدم الشعور بالاكتفاء، فكلما كبرت التوقعات المادية انخفض مؤشر السعادة والاستقرار، وكلما انخفضت التوقعات المادية يكون مؤشر السعادة والاستقرار عند الانسان عاليا، والآية القرآنية توضح طريق الواقع للعيش من خلال الزهد (لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم)، فالإنسان أكبر من الأشياء حيث لا يكون عبدًا لها وإنما هي مجرد وسيلة للحياة، والمعنى في داخل الإنسان هو الهدف والأساس وهذا المعنى هو الذي يطور الإنسان بالتفكر والتأمل والزهد وتقوية نفسه فيستطيع أن يفهم ويعبر الحجب ويصل إلى مدارك عالية ويسمو إلى مراتب من فهم الواقع.
الإمام الشيرازي والزهد
كان المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي قمة في الزهد وفي التفاني والرضا والعيش في عالم المعنى وإدراك جوهر الحياة، فالإمام الشيرازي كان زاهدا في كل شيء، في السلطة وفي التملك وقد كان قادرا على الاستملاك للأشياء، لكن حياته كانت بسيطة جدا يملك الأشياء البسيطة جدا.
أنا أتذكر في سيرته أنه كلما تُقدم له هدايا ثمينة كان يعطيها للجالس جنبه من الطلاب ورجال الدين أو آخرين ولا تبقى عنده هدية حتى لا تبقى الأشياء عنده لأنه يعتبر هذه الأشياء هي معوقة للتقدم وبالنتيجة تؤدي بالإنسان تدريجيا أن يتعلم على الاستغراق في عالم المادة وعالم الأشياء، فلذلك كان الزهد هو معناه وحقيقته.
ولذلك بسبب هذا الزهد تطور وتقدم وكان قادرا على النجاح وكان موفقا في حياته وقدرته على أنه يفهم الواقع ويصل إلى كثير من النتائج الجيدة في حياته. كان في كتاباته وكتبه وفي حياته طريقًا منيرا لنا في معنى الزهد وكيف أنه يقودنا نحو التقدم الحقيقي والمعنوي والخروج من شرنقة التخلف.
اليوم نحن نحتاج إلى الزهد وخصوصا في عالم اليوم عالم الإستهلاك والشره، نحن الآن نغرق في عالم التكنولوجيا التي سلبت المجتمع كثيرا من الروحانية والمعاني الخيرة، نحتاج إلى أن نتأمل في ذواتنا ونربي أنفسنا على الزهد في الطموحات الدنيوية وفي السلطة التي تؤدي إلى فساد الناس، فبعض الذين ذهبوا وراء السلطة كانوا صالحين لكن طموحهم في السلطة جعلهم يقعون في الفساد والإفساد وسرقة المال العام.
رابعا: الاقتداء بسيرة رسول الله (ص) وأهل بيته (ع)
الرابع من شروط وطرق الوصول إلى الواقع وفهم الواقع الاقتداء بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) فهذه السيرة هي الصدق كله والواقع جميعه فمن سار عليها ربح الدنيا والآخرة، ولايفيد التبعيض هنا في الولاء لرسول الله وأهل البيت (عليهم السلام) لابد أن يكون مطلقًا قولًا وعملًا وسلوكًا وفكرًا وتفكيرًا وثقافة، عندما نقرأ هذه السيرة وأحاديثهم نجد فيها طريقًا واضحًا لنا للوصول إلى السعادة والواقع السعيد والمتقدم والصالح وهكذا كان الإمام الشيرازي (رحمة الله عليه) كان يحاول أن يسير بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) فحاول أن يطبق كل ما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتبر أن هذه السيرة هي المنهاج الحقيقي من أجل الوصول إلى الواقع وتحقيق النتائج الكبيرة، وفعلا أنا رأيت حياته وكيف كان يحاول أن يطبق سيرة رسول الله من حيث التشاور ومداراة الناس والعفو واللاعنف والأخلاق، وفعلا كان موفقا في الكثير من أجزاء حياته للوصول إلى الكثير من حب الناس، فقد أحبوه لأخلاقه الكبيرة.
لابد لنا أن نقتدي بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ونحاول أن نطبقها في حياتنا ونعلم أبناءنا هذه السيرة، فإذا استطعنا أن نتعلم ولو جزءا يسيرا من هذه السيرة سوف نكون قد حققنا الكثير من الأشياء في حياتنا، ونخرج من هذا الواقع المتخلف، ومن الضروري التدبر العميق في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحاديث أهل بيته (عليهم السلام) وتحويلها إلى منهاج عملي وثقافة سلوكية في حياتنا اليومية لقيادة مجتمعنا وأبنائنا نحو الصدق بمفهوم الواقع، والابتعاد عن الواقع المزيف الذي نعيشه اليوم.
فالثقافات التي يمارسها البعض هي ثقافات بائسة ثقافات مستوردة حيث نرى من هو متدين يصلي ويصوم لكن ثقافته مستوردة، وهذا هو نتيجة لعدم قراءتنا أو الاستفادة من أحاديث المعصومين (عليهم السلام) ونحن لابد أن نحول حياتنا ونغيرها من خلال أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام).
لاحظوا اليوم ماذا يقرأ المسلمون؟ وماذا يكتبون؟ يقرأون كتب أخرى غير ثقافة أهل البيت (عليهم السلام)، فالإنسان جيد أن يقرأ كتب أخرى ويتعلم ويستفيد منها لكن الكثير من العلوم نستطيع أن نستفيد منها من ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) وهذا يأتي من خلال تعمقنا بأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ونجعلها طريقًا لنا في حياتنا، كما يستدعي منا أن نكتب عنهم، وكم كاتب عندنا قد كتب عن أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وحولها إلى مناهج تعليمية وتربوية في مدارسنا وجامعاتنا وفي حياتنا وفي ثقافتنا، وكم ننتج في ذلك من الكتب سنويا؟ وهذا من أكبر المآسي التي نعيشها، لذلك لابد أن نحقق نهضة كبيرة في حياتنا ونبني جيلًا كبيرًا من الكتاب المتعمقين ذو المستوى الرفيع وليس كتّابا في المنصات الرقمية.
خامسا: العفو المطلق
العفو المطلق من شروط وعناصر وطرق الوصول للواقع الصادق وليس المزيف، وهناك مشكلة عندنا في مجتمعاتنا هي استيطان الكراهية المتصاعدة التي تنتج المشكلات والأزمات والصراعات وتستنزف حياة الإنسان وحياة الناس، وتقبر الناس والمجتمع في عالم الظلام والشقاء، وتفتح صندوق الشرور والرذائل. الكراهية تتسبب في حالات النزاعات العائلية والطلاق والصراعات بين الأحزاب وبين الجماعات وتشعل نيران الطائفية والعنصرية. فهؤلاء الذين يقعون في شرك الكراهية في أذهانهم نوع من الأفكار السلبية السيئة جدا تجاه الآخرين وتتصاعد دائما والنتيجة معروفة، لأن الكراهية تؤدي إلى تشويش الذهن وصناعة الأوهام والصور المزيفة.
والمشكلة الأساسية أن هذه الكراهية تتزايد في عدم وجود حل لها فالبعض يحلها بالقانون والبعض الآخر يحلها بالقوة والإكراه لكن الحل لا يحل بل يزداد تعقيدا، فكيف نستطيع أن نجتث الكراهية التي هي سبب كل الأزمات والصراعات؟
الحل بسيط جدا للعقول النيرة والقلوب المنفتحة وهو العفو المطلق، الذي ينزع من عمق الإنسان الكراهية والشر والعنف ويقوده نحو عالم الصدق والواقع.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) {التغابن/14}.
فعند قراءة القرآن الكريم وسيرة أهل البيت وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، نجد العفو المطلق الذي كان أحد عناصر سيرة رسول الله ونجاحه في بعثته وفي مسيرته وفي رسالته، فلا يكفي العفو بل لابد من نزع الكراهية عبر الصفح والإغماض التام، فينزع الكراهية من قلبه تماماً، ينزع الكراهية من فكره وهذا هو معنى العفو الحقيقي عند المؤمنين فيكون القلب نقيا والفكر بصيرا والعقل منيرا، وهذا هو سر التوفيق والاستدامة التقوائية و(العفو أقرب للتقوى).
ومجموع الكلمات في الآية القرآنية تعبر بالنتيجة عن العفو المطلق، العفو في مستواه الأول يعني العفو الخارجي، وفي مستوى أعلى وأعمق العفو بمعنى الصفح، أي يخرج الموضوع من نفسه وينتزعه ومن ثم يغفر له ويستغفر له أيضاً فإن الله غفور رحيم، فالعفو المطلق هو الرحمة الواسعة لله سبحانه وتعالى.
هذه الآية القرآنية تعبر عن أصعب امتحان يمر به الإنسان وهو النزاعات العائلية والتربية الصالحة أم التربية السيئة فالنزاعات العائلية تؤدي إلى شقاء وآلام نفسية وتسكن في داخل الانسان إلى آخر عمره، الحل في النزاعات العائلية هو العفو المطلق فالعفو المطلق هو تربية للذات وتربية للآخر، عندما يمارس الأب أو الأم العفو المطلق، يعلمون أبناءهم أسلوب الرحمة والمحبة وأن يتعاملوا بإنصاف مع الآخرين، فالعفو المطلق هو زراعة للسلوك المتسامح وبالنتيجة فتح باب الهداية وطريق الاهتداء للآخرين، لكن الكراهية تؤدي إلى غلق باب الهداية والاهتداء، وعندما يرى الآخرون السلوك الخير والمتسامح والعفو المطلق يتعلمون هذا المنهج ويهتدون نحو هذا المنهج، فالإنسان يهتدي بهدى الآخرين بسلوكهم الخير وخصوصا العفو عن الآخر وصفحه، فالعفو المطلق منهج تربوي متفاعل لبناء المجتمعات الصالحة.
وعلى العكس من ذلك الكراهية والعنف يتسبب نفور الآخرين من الدين فالعنيفون بكل أشكالهم وخصوصا المسلحون، يؤدون إلى تشويه صورة الإسلام، واليوم بعض الحكومات والجماعات تمارس العنف والإرهاب وزراعة الكراهية وتشويه صورة الإسلام في الأذهان، لكن الإسلام الحقيقي هو إسلام الهداية، إسلام العقل، إسلام التسامح، إسلام العفو المطلق، إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال اذهبوا أنتم الطلقاء، فبالعفو انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا.
الإمام الشيرازي في اطار العفو المطلق
الإمام الشيرازي رحمة الله عليه كان من أولئك الذين يمارسون العفو المطلق، وكتب كثيرا عن العفو المطلق في كتبه ودعا إلى استخدام هذا العفو المطلق كوسيلة لنزع الصراعات، إخماد النزاعات، دعا كثيرًا إلى هذا المنهج ومارسه بنفسه فقد عفا عن الكثير من أعدائه، عفا عن الكثير من الذين مارسوا التسقيط ضده وأنا سمعت بأنه جاء الكثير من الأخوة كوسطاء لبعض من عمل ومارس التسقيط ضد السيد الشيرازي يطلبون السماح من السيد والسيد الشيرازي كان يقول أنا عفوت عن كل من آذاني، لأنه كان يرى أن الهدف الحقيقي هو الوصول إلى عالم جميل مستقر سعيد نحو التقدم والقضاء على التخلف والنزاعات في مجتمعاتنا.
كان الإمام الشيرازي سيرة وفعلاً وقولا هو نموذج من نماذج العفو المطلق الذي نجح في استقطاب الكثير من الناس، أحبوه لأخلاقه ولعفوه أحبوه لتسامحه والناس اجتمعت حوله لهذه الخصائص الأخلاقية، وهذه عبرة لنا في ممارساتنا وحياتنا.
اشراك الآخر
والعفو المطلق لا يعني ترك الآخرين بل لابد من اشراكهم لأن الترك هو فشل وضياع للأهداف، الترك يؤدي إلى نفس النتيجة انشقاق وانشطار وصراع خفي واختلال في البناء الاجتماعي، لذلك لابد من التعامل معهم بشكل جيد واشراكهم، واحتوائهم ومداراتهم عبر الحوار الإيجابي والتعاون، قال عزوجل: "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر"، شاورهم في الأمر، معناه أشراكهم حتى لو اخطأوا لأن الاشراك معهم يؤدي إلى تعلمهم وتربيتهم الصالحة.
أخيرا فإن في القرآن الكريم وسيرة أهل البيت (عليهم السلام) وحديثهم الكثير من الطرق التي تؤدي للوصول إلى الواقع، وكلما ارتفعت المقدرة على الفهم وإدراك الطرق للوصول إلى الواقع ازدادت القدرة على العيش بسعادة واطمئنان ورضا وسلام، وهذا هو معنى العيش بالبركة، تطور حياة الإنسان وتنعمه وسعادته.
فلنبحث عن هذه الطرق بعمق وتفكر وتأمل مستدام.
اضافةتعليق
التعليقات