يُقال: "من مقتضيات الحكمة أن تعرف ما يجب أن تتغاضى عنه".. وبالفعل فإنَّ الاهتمام والتعلّق العقلي والقلبي بكل ماهو دنيوي وزائل ورخيص يؤدي بالإنسان إلى الجهالة والنزق والحمق والسفاهة.
وذلك لا ينافي الحكمة فقط بل يوجب أيضاً الفقر؛ الفقر بمعناه الواسع وليس المادّي الضيّق والمتداول، فالغني الحقيقي هو غني النفس وليس غني الجيب، والفقير كذلك ليس فقير المال بل الفقير في المعنويات؛ فقير العلم والدين والأدب، ذاك الذي تجده يحتاج دوماً للمخلوقين وتخضع نفسه الضعيفة لسلطة الشهوة والمال والجاه.
يقول أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام):
"أشرف الغنى.. ترك المُنى".
من منّا لا يحب أن يكون ذو نفس غنية، بل من الأعلى مرتبة ومنزلة، كما عبّر عن ذلك الإمام صلوات الله عليه، فكيف نحصّل ذلك، وما معنى المُنى هنا؟، أوَليست الأماني مفهوم إيجابي، حق شخصي مشروع، صفة جميلة يتمتع بها أصحاب الطموح العال والأحلام الكبيرة؟!
نعم، لكن ذلك يكون على حسب نوع الأماني والهدف من وراء تحقيقها، فكل أمنية وحلم وهدف تكون الصبغة العامة والمقصد منه إلهي ويقوم على أسس الخير وتحوّطه المعاني والقيم السامية تلك أماني وأهداف يجب أن يسعى الإنسان لها ولا يتركها، أمّا الأماني بجانبها الآخر هي المرتبطة بالمال والشهوة والشهرة وهي بيت القصيد في كلام الإمام.
فالمقصود من هذه الحكمة هو الترفّع عن الحاجات المادية لأنَّ التخلّي عنها يحقق الإكتفاء النفسي، فالأماني في جانبها السلبي تقيّد الإنسان وتوّلد لديه الحسرة والخيبة عند عدم تحقيقها، لذلك عبّر الإمام عن تركها بأشرف الغنى، وهو يحثّنا هنا على القناعة بما لدينا، فمن يملك الرضا سيملك الإيجابية والإطمئنان والتوكل على الله، وبالتالي سيكون قوي الشخصية واثقا من نفسه، وستحبه الناس وتتأثر به.
ومن باب آخر قد يكون المقصود من المُنى هو توقع ما لا يمكن وجوده وتحصيله، قد تكون رغبة غير منطقية أو خطيرة أو غير واقعية، أو إنه يسعى لتحقيقها لكن بأساليب ملتوية وغير مشروعة. والحرص الشديد على بلوغ كل ذلك يولّد عقداً نفسية لاستغراق صاحبها في الوهم والحلم الزائف.
نستطيع توظيف هذه الحكمة البليغة في الكثير من جوانب حياتنا، مع الطفل مثلاً وأهمية زرع حس الاكتفاء والقناعة والرضا وتعليمه عدم النظر إلى ممتلكات الآخرين وعدم الحرص على امتلاكها أو نزعها منهم أيضاً. وكذلك خفض سقف التوقعات في اختيار الزوج أو الزوجة، والاهتمام بدل ذلك بالخلق والدين.
وفي الجانب الإجتماعي على الإنسان أن يترك أمنياته حول آراء الناس عنه، وفي أن يكون محبوباً ومحطاً للأنظار، وفي النهاية إرضاء الناس غاية لا تُدرك!.
فالأولى على الإنسان ترك الإنشغال والتفكير بتلك الأمنيات والمبادرة إلى العمل الصالح، وكذلك الخروج من دائرة الأنا والسعي لخدمة الآخرين والتزوّد ليومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قلبٍ غني ترفّع عن متاع الحياة الدنيا وزينتها.
اضافةتعليق
التعليقات