إن للعالم الثقافي بنية (ديناميكية) تتوافق مظاهرها المتتالية مع علاقات متغيرة بين العناصر الثلاثة الحركية: الأشياء – والأشخاص – والأفكار.
الفاصل الزمني: هو صراع بين العناصر الثلاثة في قلب العالم الثقافي. أما الأزمة فهي نهاية هذا الصراع عند انتصار واحد من الأبطال المتصارعين وظهور طاغية يستولي على السلطة في قلب العالم الثقافي.
وهنا فإننا سنحاول عزل الفواصل في صراع الفكرة والشيء وذلك لمعناه الاجتماعي الخاص.
هذه العلاقة لا تجد تعبيرها فحسب في المجتمع الإسلامي الذي يواجه في هذه الآونة (الشيئية) وسائر نتائجها النفسية والاجتماعية، بل يمكن اعتبارها أيضاً بالنسبة للمجتمع المتحضر وسيلة تحليل لوضعه الحاضر؛ من وجهة النظر النفسية الاجتماعية.
فكل فكرة جاهزة في أوربة وتتمحور بقليل أو كثير حول موضوعنا تستطيع أن تثيرنا، وهي تثيرنا بالرغم من تناقضاتها أحياناً.
فالمشكلة في الواقع ذات وجهٍ مزدوج.
ففي بلدٍ متخلفٍ يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً.
أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه: فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع.
إنه يفرض حينئذ شعوراً لا يحتمل من السأم البادي من رتابة مايرى حوله فيولد ميلاً نحو الهروب، ذلك الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلى تغيير إطار الحياة والموضة، أو يدفعه إلى الذهاب ليستنشق الهواء في مكانٍ آخر.
إن نظام الإجازات المدفوعة ليس سوى ثمن هذا المركز الذي تحتله الأشياء؛ إنه الدواء المسكن لداء عدم الاستقرار الذي يقود المجتمع الاستهلاكي.
إن المجتمع المعدم يتفاعل مع الكلف بعالم الأشياء الذي لا يملكه، أما المجتمع المليء فإنه يتفاعل مع وساوس هذا العالم.
ولكن مع هذين الانفعالين فإن المجتمعين كليهما يواجهان الداء ذاته، فطغيان الشيء يختلف عن الشعور به، ولكن النتائج النفسية المنطقية واحدة. فالشيء يطرد الفكرة من موطنها حين يطردها من وعي الشبعان والجائع معاً.
هذه النتائج في المجتمع الإسلامي تأخذ أحياناً أشكالاً تدعو للسخرية؛ حينما يحل الشيء محل الفكرة بطريقة ساذجة لينشىء حلولاً مزيفة لمشكلات حيوية.
ونلاحظ ذلك في المراتب العليا للدول المستقلة حديثاً؛ حتى في مستوى التعليم العالي الذي يفترض فيه تحديد الاتجاه العام لمثقفيها.
وأسوق هنا هذه المذكرات المقتبسة من وثيقة تتعلق بإدارة معهد طب الأسنان بالجزائر وتعود إلى عام 1965 وأثبت النص بحرفيته:
"إن أحد الدلائل المعبرة عن الوضع الحالي لمعهد طب الأسنان، هو الحال التي يوجد عليها القسم الأكبر من اللوازم التقنية.
في الواقع إن 57 وحدة علاجية من أصل 60 وحدة معطلة في الوقت الحاضر (1965)، وهذا يعني من منظار الميزانية أن حوالي (300) مليون فرنك فرنسي قديم مجمدة في استثمار عقيم.
ولا بد أن نضيف بأن اختيار تلك اللوازم من حيث المبدأ كان سيئاً. لأنه لا يجوز أن يسلم إلى الطالب المبتدئ جهاز مخصص لعيادة جراح الأسنان، ففي مدارس طب الأسنان في البلاد المتقدمة يتم التعليم بأدوات زهيدة الثمن وعلى كراسٍ عادية بالأخص.
والجدير بالملاحظة علاوة على ذلك أنه في الوقت الذي تتوفر فيه (في معهد طب الأسنان هذا) كمية كبيرة من اللوازم الثابتة الباهظة الثمن من غير أن تكون ضرورية هناك نقص في الأدوات الصغيرة التي لا غنى عنها للطبيب وخاصة للمبتدئ".
هذا لدرجة أن المعهد يبدو في النهاية وكأنه منصة لعرض معدات الأسنان، وليس ورشة عمل أو مختبراً للتعلم.
والتعلم في الواقع يصبح طبقاً لذلك دون أية صفة علمية؛ إذ سيقتصر على تخريج مجرد قالعي أضراس وليس أطباء جراحين.
ومثلاً نرى أستاذاً في طب الأسنان يكلف بإعطاء دروس في الأمراض البولية، وأما أوقات التدريس فهي فوضوية لدرجة أن الأستاذ يختار أي توقيت وأية مجموعة تلاميذ ليعطيها درسه. ونتيجة لذلك في نهاية العام الدراسي: إن الأستاذ الشريف الذي يغوص في هذه الفوضى لا يعرف كيف يقدر علامات الطالب.
إن هذه الوثيقة الإدارية البسيطة تدل على افتقاد توازن يؤثر على علاقة (الفكرة بالشيء)؛ حتى على الصعيد الجامعي في بلد من البلدان المتخلفة وهذا خلل صارخ تظهر آثاره السلبية على الصعيدين الاقتصادي والتربوي على حد سواء. ومن الممكن مراقبة تلك الآثار وحسابها على يد هيئة إدارية حريصة على حسن إدارتها.
اضافةتعليق
التعليقات