بدأ عدد المراجعين يتضاءل في عيادة طبيب الأسنان، بعد أن قضيت ما يقارب الساعتين والنصف في إنتظار دوري، الوقت قد تأخر ولازلت في منتصف الانتظار، الغريب أني لم أشعر كيف مضى كل هذا الوقت دون أن أشعر بالملل كعادتي، وأنا جالسة على الكرسي لم أتحرك ولم أشغل نفسي بالهاتف لمتابعة الأخبار.. أو لقراءة كتاب.. أو لتصفح مواقع الموضة مثلا..
الحقيقة كنت أختلس النظر للسيدة وولداها الاثنين الذين يجلسون أمامي بانتظار دورهم لدى الطبيب أيضا، وأنصت لحديثهم معا!
فقد جذبني بر أولادها وتوددهم إليها، فرحت أراقب كلماتهم المهذبة ذات اللهجة الريفية المحببة،
وتسائلت كيف يمكن للمرء أن يربي أبناءً بارين في زمن طغى فيه التفكك والعقوق ونكران الجميل؟
وهل البر مجموعة تعاليم وطرق تربوية يمكن غرسها في الأبناء منذ الصغر؟
أم إنها مكتسبة من مجموعة أفعال وأقوال المحيط؟
أم أنها هبة من الله تعالى تأتي كتعويض إلهي؟
دارت تلك الأسئلة وغيرها في رأسي، ولما لم يأتي دور أيا منا بعد تجاذبنا أطراف الحديث،
رغم أنني لا أندمج مع الغرباء، إلا أن فضولا جذبني تجاه السيدة، تحدثنا عن الطبيب.. ومشاكل الأسنان.. ودراسة الأولاد..
ثم اتضح من كلام الأم أن الأولاد البارين يعملون ويدرسون!
باغتني شعور بالمسؤولية تجاهها وَولداها جعلني أتسائل كيف يعملون وهم لا يزالون صغاراً ولماذا يعملون؟
تؤلمني رؤية الأطفال يعملون وهم في سن صغيرة، فكانت الإجابة مؤلمة، والد الصغار عاجر مقعد إثر إصابة في منطقة الظهر جعلته يعاني من شلل نصفي دائم..
تعاطفي معها جعلني أسأل عن أحوالهم أكثر خصوصا وقد انشغل أولادي مع أولادها بحديث طفولي شبابي سهل لي التقرب منها لمعرفة ما تعانيه، وكأني صرت للتو مسؤولة عنها، لا أدري أي حديث دار بين الأولاد لكنني كنت أنظر إليهم بين الحين والآخر وأرى ابتسامة مريحة تعلو وجوههم، ورحت أجول بين تفاصيل حياة هذه السيدة صاحبة الوجه النوراني ولا أدري أهي امرأة عادية أم أنها ملاك أم تراها من الصالحين؟
"ذات مساء قبل ثلاثين عاما تقدم لي أب أولادي الثلاث خاطبا، كان شابا متواضعا، قالوا أنه ملتزم، كما أنه يتميز ببعض الكماليات، وافقت بشرط أن لا أترك دراستي بعد إلحاح والدي ومحاولات أمي بإقناعي على أن أكون عروسا في أقرب اجازة له بعد إتمام كل مستلزمات العرس، لم يكن في ذاك الزمان يستساغ الزواج من الجنود فقد تودي الحرب بأرواحهم وتترمل نسائهم بعمر الشباب.
لكن بما أن الحرب قد انتهت فلا خطر قد يهدد حياة هذا الجندي الذي سيصبح سيد قلبي وكياني وبيتي، جرت الأمور على خير ما يرام وقد بدأت تتغير نظرتي تجاه الزواج وتكوين الأسرة بعد ما كنت رافضة تماما.
إلى أن جاء والدي في يوم وقد بدا الهم جليا على ملامح وجهه يتلعثم وتخرج الكلمات من فمه غير مفهومة ليخبرني بعد مقدمات كثيرة قد تهون ما وقع من حادث أو ما ألمت بي من مصيبة، ليصطحبني بعدها إلى المشفى لزيارة ذلك الجندي المسجى بين الحياة والموت، إثر اصابته بثلاث اطلاقات نارية أسفل ظهره، سقط على أثرها فاقدا للوعي هو للموت أقرب منه للحياة.
منذ تلك الساعة قد زرع الله له حبا عظيما في أعماق قلبي، كنت أبكيه ليل نهار وأدعو له سرا وعلنا، أصبت بحالة من الصمم والذهول جراء ما ألم به، قبل أربعين يوما من الآن كنت أعيش حياة مستقرة لا أشغل بالي سوى بدراستي، ما الذي قلب حياتي رأسا على عقب؟
كنت أكره الحروب وأكره الكلام عنها..
أوليست الحرب قد انتهت؟
كنت أتساءل ألم تحتفلوا بالأمس بنهايتها بعد أن لبثت فينا عمرا وحصدت أرواح كثيرة؟
لكنه كان ضحية مناورات بعض المعارضين التي جاءت ردا على مناوشات أناس فقدوا الضمير وماتت الإنسانية في قلوبهم، بعد أن صاروا عبيدا للطغاة، كنت أتمنى أن أنام ولا أصحو إلا بعد ثلاث أو أربع أيام وقد تجاوز الخطر كما كان يقول الطبيب، لعل حالته تستقر، لكن هيهات أن يزور النوم عيني وتغمض أجفاني، ومرت الأيام الثلاث الأولى كأنها دهرا..
وبدأ يعود لوعيه شيئا فشيئا بصحوات ملئها الألم، ثم بجرعات كبيرة من المهدئ ينعم بالراحة ويغط بنوم عميق بعيدا عن الواقع المؤلم وما تنتظره من حياة جديدة، مرت الأيام الثلاثة بطيئة جدا..
ومرت الأشهر الأربعة كأنها دهرا خرج بعدها لحياته الجديدة على كرسي متحرك وخرجت أنا تاركة للدراسة متوجسة من كل شيء بعد ما آلت إليه أحوالي، واختار الله له أن يكمل حياته على كرسي متحرك لا يقوى على النهوض ولا يقدر على الكثير من الأمور إلا بمساعدة أحدهم، حتى ذهابه للحمام.. تغيير ملابسه.. نومه..
وكل شيء إضافة إلى حالته النفسية السيئة جدا.. أبي وأخوتي بين مؤيد ومعارض لفسخ الخطبة وأنا لازلت في حالة من الصمت..
كانوا ينظرون له على أنه عاجز أما أنا فأراه ذاك الشاب الذي جاء لخطبتي قبل أشهر معدودة وحلمنا أن نتشارك الحياة ونتمتع بحلوها ومرها معا، فالحياة تحمل الكثير من المفاجآت منها سعيدة وأخرى تعيسة، ولابد لليل التعاسة أن ينجلي ويطلع الصبح من جديد، كانت إيجابية رغم الكم الكبير من المتاعب الذي تعانيه ورغم المسؤوليات الكبيرة الموكلة إليها لكن حينما تكون الإرادة قوية والصبر هو المنهج فإن الله هو المعين، سألتها: كيف لك أن توافقي على رجل مقعد وكان لك الخيار بأن ترفضيه؟
أجابتني بكثير من الصراحة، لا أخفيك أنني تنازلت عن أحلام كثيرة أبسطها أن نمشي متشابكي الأيدي وسط المهنئين في حفل زفاف تحلم به كل فتاة، والكثير من الأمور التي يقوم بها رجل صحيح الجسد لايمكن أن يشاركنيها رجل مشلول أحمله آخر الليل بأيدي ترتجف لأضعه على السرير، وأعود في الصباح لأضعه على كرسيه المتحرك.
يوم زفافي بكيت كثيرا وكانت أدمعي من أجله، ثم ابتسمت وعيناها تلمعان قائلة: لازلت أحتفظ بفستان زفافي وأشعر أنه لايزال مبللا بالدموع وملوث ببقايا أحمر شفاه، ثم أردفت تقول عند الله احتسب أجري وأولادي خير عوض..
ما إن جاء دورنا للدخول إلى الكشف دخلنا سويا، لاحظت أنهم لم يتمكنوا من دفع أجور طبيب الأسنان وخرجوا دون أن يصلحوا أسنانهم، خرجت وراءهم قدمت للإبن الأصغر مبلغا صغيرا يساعده على إصلاح أسنانه فرفضت الأم رفضاً قاطعاً وتغيرت ملامح وجهها المتسامح، بقيت أبرر وأبرر أنها للولد الصغير يشتري ما يشاء بها لكنها أصرت وذهبت وعلامات الغضب على وجهها.
شعرت بالإهانة رغم أنني لم أقصدها، كانت تتمتع بعزة نفس عالية رغم حاجتها للمال لم تأخذه، بقيت واقفة مكاني للحظات أحاول استيعاب هذه السيدة بعد أن حصلت على إجابة لأسئلة احترت في جوابها، حتما ما يزرعه الإنسان يحصده.
اضافةتعليق
التعليقات