تفيض صفحات التاريخ بثورات وحروب انتهت أحداثها بالأسى والفقد والحزن والوحدة والخذلان، لحظات قاسية مرّ بها من عاصر تلك الثورات أبيضها وأسودها، توحدت أحزانهم ومشاعرهم تحت يافطة الألم، لكن اختلفت ردات فعلهم وكيفية تعاملهم مع مرارة الاضطهاد كلٌ حسب طريقة تفكيره وقدراته وظروفه.
بعد وقوع الفجيعة ومع الأوقات العصيبة تتخذ الذاكرة آليات معينة تستقيها من تجارب أخرى تكررت أو تبتدع أخرى خاصة بالفرد وإن لم ينجح العقل بمفرده فقد يطلب من صاحبه اللجوء إلى صديق، ويختلف شكل الصديق وهيئته من شخص إلى آخر.
بشكل عام قد يكون الصديق طبيبا أو مرشدا نفسيا، ويرافق ذلك بالعادة جلسات وعلاجات قد تمتد إلى طيلة العمر، أما الأشخاص المؤمنين فيتعكزون على مبادئهم الدينية ومن تلك الخيارات قد يكون الصبر أو التعايش والنسيان وغيرها.
أحد الخيارات المتاحة لشخص خرج من تجربة مؤلمة هو ايجاد "مصدر عزاء" وإن لم ينجح بايجاده أو اكتشافه فسيكون في وضع مؤلم يُطلق عليه مصطلح: "عالِق"، كالذي يعلق في مكان خطر بين منحدرين، لاهو بهالك ولا هو بماضٍ في مسيره.
هذا المكان خطر جداً، لأنه يدفع الانسان إلى قرارات مخيفة سواء كانت بيده أم بيد عقله اللاوعي ومنها الانتحار أو الوصول لحافة الجنون، كالذي حصل مع الكثير من الجنود في الحربين العالميتين، هذا في أسوء الأحوال وفي أهونها قد يلجأ إلى العزلة ومن نتائج العزلة يأتي الفشل والتخلف الفردي ومن ثم المجتمعي.
هذه الرابطة شرحها عالم النفس اللبناني الدكتور مصطفى حجازي في نظريته عن "الانسان المقهور"، وماتتمخض عنها من هدر الطاقات والكفاءات، فيقول في أحد بنودها أن "الدراسات الاختزالية تُغفل الحقيقة الأساسية التي يختبئ وراءها تخلف هذا العالم الثالث، وهو القهر الذي يحجب المجتمع عن أي خطوة للأمام".
ويقول حجازي أن "مجالات القهر الاجتماعي تنبني على بعضها، لكنها تشترك في النهاية في محصلة واحدة، وإن تباين مستواها، وهي إخضاع الآخر للسلطة بأداتين مترابطتين: سمو قدر المتسلط، وانحطاط شأن المقهور".
ومن أدوات السلطة في ذلك هي وسائل الاعلام وتضليل الأخبار وترسيخ فكرة قوة المتسلط ودونية المنتفِض.
أما ردة فعل الأفراد فتتأرجح بين كفتين، إما استسلامهم للأمر الواقع والعزلة أو العنف والتمرد.
من الحلول الناجعة ترسيخ فكرة حرية الانسان وكرامته واحترام حقوقه والمطالبة بها والضغط على المتسلط عليها بعدة أشكال وأساليب.
تتضح هذه الصورة في عدة ثورات تاريخية رافقتها أحداث دامية وأهمها نهضة عاشوارء، فكيف تعامل الناجي منها والشاهد على أحداثها القاسية؟، وعلى رأسهم الامام المعصوم وهو الامام السجاد عليه السلام؟
إن ردة فعله تشكل نبراساً إلهياً كامل الأبعاد لمن تتيه به السبل بعد تكالب المصائب.
كان عليه السلام بين خيارين على كل مفجوع أن يسلكه، فبين أن يستسلم للواقع الأليم فينعزل عن الآخرين أو أن يستمر بثورة أبيه الشهيد.
بالتأكيد كل الأئمة الكرام لم يتخذوا سبيل السكوت عن الظلم وتنحية مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو العزلة الاختيارية عن مجتعهم، _كان هناك نوع العزلة التي فرضتها السلطات على بعض الأئمة بهدف تضييق الخناق عليهم_.
لقد سلك الامام السجاد الخيار الثاني، لكن ليس بمفهومه العام والمباشر وهو الخروج على الظالم بالسيف كأبيه الحسين، ولكن بطرق أخرى غير مباشرة ومنها:
_ أحاديثه وخطاباته في عدة مناسبات:
لم يسكت الامام رغم ظرفه الصحي الصعب ورغم أسره مع السبايا وخطورة التكلم أمام الطاغية، وتجلت مواقفه الدفاعية في الكثير من المواقف، ومنها خطبته الغراء في المسجد الأموي الذي كان يضج بالناس الذين أوهمهم الاعلام المضلل بأن سبايا أهل البيت ماهم إلا خوارج!. واستطاع الامام أن يفضح بني أمية مما أدى إلى انقلاب الناس على يزيد وذمّه.
وبهذه الطريقة لم ينجح يزيد في ترسيخ النقطتين التي أراد أن يبثّهما بين أفراد المجتمع وهي: "سمو قدر المتسلط، وانحطاط شأن المقهور". بل انقلب السحر على الساحر وتغيرت المعادلة.
_ تربية العبيد:
يستطيع الانسان أن يقاوم الباطل عن طريق تأسيس فكر مضاد لفكر الظالم، فلقد كان الامام يشتري العبيد لا لحاجة إليهم ولكن ليعتقهم، وقد ذُكر أنه أعتق مائة ألف عبد!.
كان هدف الامام هو تربية أولئك الأفراد ثم عتقهم بعد تزويدهم بمبلغ من المال، ليبلغوا عن رسالته بعد أن يرجعوا إلى أوطانهم، واستطاع بهذه الطريقة أن ينشر فكر أهل البيت ومعارفهم.
_ البكاء والدعاء:
وهي إحدى أهم الأسلحة التي استخدمها الامام لمعارضة بني أمية، فالبكاء إحدى الوسائل الوجدانية لنشر مظلومية أي شخص والتعريف بها، والكثير من فقرات أدعية ومناجاة الامام مع الله كانت تحتوي مضامين عالية ومنها معاني الدعوة والثورة وبناء الذات.
_ الحوار الأخلاقي مع المناهضين الجهلة:
كيف نرسخ فكرة ما في مجتمع جاهل؟
عن طريق التواصل معه بأسلوب أخلاقي رصين، لقد جاء شيخ شامي إلى الامام عندما كان مع قافلة الأسرى، وقال له: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم. فرد عليه الامام: ياشيخ هل قرأت القرآن؟
هكذا تعامل معه الامام بكل هدوء واحترام، وقد بيّن له بعد ذلك وبآيات قرآنية يؤمن الشيخ بها أنهم قربى النبي محمد والمخصوصين بآية الطهارة، ثم بكى الشيخ وتاب بعد ذلك.
كان يستطيع الامام تجاهله وعدم الرد عليه أو حتى مهاجمته لسوء أدبه، لكن الامام شخّص وضع السائل فكانت الحجة القرآنية إحدى طرق مناقشته وجذبه وبأسلوب لطيف وكان ذلك أقوى ردٍ عليه وأكثره تأثيراً.
_ تأييده للثورات:
وإن لم يشترك الامام ببعض تلك الثورات بصورة مباشرة لمصلحة خاصة يعرفها لكن كان له دور كبير في تحريك الناس ضد الجيش الأموي، ومنها ثورة المدينة والتوابين والمختار وزيد الشهيد.
_ أعلام نسوية:
الامام لم يكن وحيداً بعد عاشوراء، لقد كان معه مجموعة نسوة مناضلات صبورات أكملن مسيرة الجهاد الكربلائي وعلى رأسهن عمته الحوراء زينب؛ صوت الحسين وجرحه الناطق، في بعض المواقف كان الامام يستطيع أن يرد أو يتكلم أو يوضح ويدافع عن حقهم، كونه بقية الله في أرضه، وإمام الشيعة بعد استشهاد أبيه وحجة الخلق، لكنه فسح المجال في الكثير من الأوقات للسيدة زينب بالتحدث، احتراما لها وتقديرا لعلمها ومكانتها ولمعرفته لحجم الأثر العاطفي للمرأة على الآخرين.
واجه الامام بكل تلك الطرق طغاة عصره، بالطبع لم ينسَ الامام أبداً أحداث عصر عاشوراء وما حدث بعدها من رحلة سبي قاسية، يقول الامام الصادق عليه السلام واصفا جده زين العباد: أنه "بقي يبكي أبيه أربعين سنة، وكان لايزال يكرر : قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله تعالى".
وأي حجر وأي مدر استطاع نسيان تلك الفجائع؟، إذن، بعد كل تلك المصائب هل تعايش الامام مع حزنه وانطفأ وانكفأ يبكي سبط الرسول وحيداً؟، لا بكل تأكيد، ولو فعل لما وصلت عاشوراء إلى يومنا هذا، لقد خلّد الامام ثورة أبيه عن طريق تأسيس مجالس العزاء ونشر سنّة إقامتها، ولم يسكت عن الظلم بل أيّد الثورات وفي نفس الوقت لم يتجاوز رزية يوم الطف بل بقي يبكي أباه وامام زمانه ويشجع الآخرين على مشاركته الحزن، لم يترك أي فعل شخصي وبسيط من دون ربطه بالمجتمع وبمبدأ الحق فتحمّل مسؤوليته الشرعية وضمّن أدعيته بها، وهكذا انتصرت ثورة الحسين وخُلّدت مابقي الدهر.
اضافةتعليق
التعليقات