أجنحة الظلام تحلق في سماء مدينتي وكأنها ترسم لوحة بالفحم الأسود بعدما كانت مرسومة باللون الأزرق، يختفي الأزرق من السماء تدريجيا لتظهر لوحة أخرى، في عيون الأرض هو الليل المعتم وفي السماء هو استراحة للون الأزرق، وللعينِ سحرٌ في رمشَها الذابل فتراه تجد هذا السواد هو انتظار لفجر قريب، وأخرى تراه هو تلك الهموم المعتقة في ثنايا الروح حتى تصاعد دخانها عناق السماء فتلونت بالأسود، وللروح آهات تسمعُها بين هذه الألوان.
وكعادتي كلَ يومٍ أجلس قرب النافذة في المساء أراقب مسيرة النجوم وهي تزين اللوحة، بينَ ثنايا قلبي هناك الكثير من الأوجاع، بتراتيلٍ ريفية انشد لعل قلبي يهدأ، فمن الصعب أن يفضحَ أشواقه ويحكي عن أمنية شائق يتمنى، كعليلٍة تسكن وجعهُا بحبة دواء أخذت اقرأ ما كانت أمي ترتله في المساء، تعلو على ملامحي الاشتياق، حتى تتغير نبرة صوتي، رغم قوتي إلا أنني لا أقوى على الغيبة بعد.
تضرب الامواجَ في ذاكرتي بين العلامات والأهوال وبين محب ينتظر، احتضن تلك السنينِ الراحلة التي اسرفتها، بعيونِ القلب الدامعة هل أنا منتظرة؟.
غصت في هذا الزخم المتلاطم من الأفكار المبعثرة، حتى أيامي لم تعد سعيدة بل تلونت هي الأخرى بألوان الرماد، في العشرين من العمر وملامحي أصبحت ملامح عجوز طاعنة في السن تلاعبنا الدنيا بمغرياتها فمرة أموال ومرة بنين وأخرى مناصب.
وأنا جالسة أحاول أن أخفي تلك العلامات البائسة، لكن روحي كانت خاوية يأكل جسدي الحزن، موغلة في الاحباط والصمت وينخر رأسي الوجع، أعود أفكر في أمر جعل العالم في كفة أخرى، فيروس صغير أوقف العالم على قدميه، حتى الدول العظمى تركت الأمر لله فقد انتهت حلول الأرض والأمر متروك للسماء، فإذا كان الأمر منذ البداية للمساء لم ننتبه.
الأفكار تنهمر فوق رأسي، صرخات تخرج من أعماقي، تضرب في زنزانة الماضي تود أن تخرج من أسر القيود، جعلت يدي على رأسي خوفا من هروبها، لكنها هربت مني وأطلقت نفسها نحو السماء كحمامة بيضاء، الصمت في المدينة يجعلك تسمع صوت الطيور وهي تحلق، مدينة خائفة سكانها في حظر دائم، الخوف يحوم بين بيت وآخر، حتى تلك البيوت التي كانت آمنة أُغلقت وتوقفت أمام الجماعة.
فيروس صغير يتمرجح بين الحقيقة والخيال، وقف عجلة الحياة، بين خائف يترقب الظهور وبين ملجأ يتخبأ فيه من الخوف، يحرقُ الانتظار باقي أيامي بحطبِ الأشواق المتزايدةِ يوماً بعدَ يوم، فلا شيء غير أن تعد أيامك الباقية، فالانتظار يولدُ خلسةً في شغافِ القلب، تنفستُ الصعداء كيف لهذه الليلة أن تنقضي.
أبحث بين اركان الحجرة عن شيء يقتل الوقت، ثمة شيء من المذكرات التي كتبها جدي في شبابه وهي الآن بالقرب مني مخطوطة بجلد من الغزال معلقة على جدار الحجرة، وقد كتب فيها بالخط الكوفي عن الامام المهدي(عج) لو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا.
أوقدتُ الشمعة وأطلتُ النظر في هذه الكلمات، كيف للقلوب من اجتماع،؟ والوفاء بالعهد، والسعادة بمشاهدتنا؟.
شعرتُ بالخوفِ كيفَ لو حصلَ ذلك وكانت الشيعة على محبة وتآلف بين القلوب من غير تلك الفروقات، ولدت في زمن تكالب الأعداء علينا، كثر فيه الظالمين، واختلفت الفرق، حتى أننا أضعنا الحق واتبعنا الباطل، ارتعشَ جسدي، ارتَفَعَ أنيني، كيف نعتبر من المنتظرين ولازلنا في محطة المذنبين، تندب الأيام وتعصر روحي الزفرات، يقف الزمن وكأني أداة لا تصلح لشيء غير الانتظار فما ذنبها إن كانت نفسي مغلقة.
والليل مظلم والفجر بعيد، كيف تبقى مقيدة في عالم لا يخلو من المعاصي والكبائر، وفي المقابل نفسي ورغباتها، من دون أي وقاية من ذنب كما فعلنا الآن من وقاية الفيروسات، لحظة واحدة تراجع فيك سنوات عمرك لتجدها كسعفة نخل خاوية تلاعبها الدنيا وترميها عند أول عاصفة. هكذا أنا ضربت بيدي على الجدار بكل ما أملك من حسرة وندم وكأنها ضربة على جبل، تأسفت لحالي ولبقية أيامي التي لم أتذكر فيها أن لدي منقذ ينقذني كما هو الآن، أي غفلة تلك.
دقات القلب تتسارع أكثر فأكثر، وهج النار يحرق صدري، صمتي قادر على تحطيم كل شيء لو نطق، يئست من حالي، حتى الدعاء بالفرج أصبح وردي المعتاد، بصوت خفيف بدأ شيخ الجامع يرفع اذان الفجر، رفعت طرفي نحو السماء ها هو الفجر يبزغ، بدموع غزيزة قلت: سيدي يا صاحب الزمان أنت الان تجلس على سجادة صلاتك ومعك الملائكة والمقربين، هل نحظى بصلاة أو دعاء يقربنا منك ونكون عندكم مقربين، فتعود لنا الرؤية كما عادت ليعقوب؟!
بين نداء الروح والسماء هناك حديث اتصل بيننا فكان: "فليعمل كلُ أمرءٍ منكم بما يقربُ به من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهيتنا وسخطنا" ورد الحديث عن الامام المهدي.
اضافةتعليق
التعليقات