ما زالت الحاجة أم ياسر تتجول في سوق الصفارين لتبتاع ما تحتاجه من الأواني، إذ بدا بأنها تستذكر أيام طفولتها بأروقته الضيقة حينما كانت تزوره آنذاك..
كما اعتلت محياها ملامح الحزن لتوقفها عند بعض المحال اللواتي اقفلت أبوابها تنذر بذلك أن السوق في طريقه إلى الاندثار..
تراث كربلاء
يعد سوق الصفارين في مدينة كربلاء من أحد الأسواق الشعبية المعروفة وله تراث عريق فما زال يفوح منه عبق الماضي الجميل ففي ذلك الزقاق الطويل انتشرت محال على الجانبين لحرفيين في مهنة الطرق على النحاس ليكملوا صورة جماله بأجمل الصحون والأواني المنزلية وأباريق الشاي والكاسات والملاعق، وإطارات الصور، والفوانيس النحاسية والنقش عليها..
ولهذا بات الشارع يعرف بسوق الصفارين أو الصفافير نسبة لمادة النحاس التي تسمى الصفر حسب اللهجة الدارجة في المدينة.
(بشرى حياة) أجرت جولة استطلاعية حول تراث هذا السوق:
أصالة الماضي
إن اكتساح السوق للمستورد بأنواعه وألوانه من الأواني النحاسية كان السبب بقطع رزق دخل الكثير للحرفيين مما جعل من هذا السوق في طريقه إلى الاندثار, هذا ما استهلت به أم كريم حديثها, وأضافت قائلة: "لم أرغب يوما في شراء أواني مطبخي من سوق آخر فقد كنت أجد متعة كبيرة في التبضع هنا, إلا إن المستورد أصبح متوفر في كل مكان اضافة إلى الأسعار إذ تكون زهيدة تناسب حتى أصحاب الدخل المحدود".
وأضافت: "إن للحداثة دور كبير في تراجعه, إذ أصبحت ربة البيت تغير أطباق الطعام وكافة أطقم الأواني بشكل عام مع الموضة وذلك من خلال متابعتها الدؤوبة لبرامج الطبخ على التلفاز وغيرها من وسائل التكنلوجيا مما ساهم بشكل كبير على التسويق للمستورد بدل الصناعة المحلية".
وتابعت:" بالنسبة لنا نحن كبار السن مازلنا نعشق سوقنا القديم هذا, إذ يعيدنا إلى أصالة الماضي".
فيما حدثنا أبو مسلم قائلا: "إن سوق الصفارين أحد الأسواق الفلكلورية إذ يمتاز بنكهة خاصة يذكرني بوالدي (رحمه الله) فقد كان كثيرا ما يصحبني لهذا السوق للتبضع, فلا يخلو أي بيت عراقي من أواني الصفر, وأنا اليوم في صدد هذا الأمر إذ حضرت مع حفيدي لأشتري بعض الأواني الخاصة بالمناسبات".
فيما أشار الشاب ليث حيدر أحد المتجولين في السوق: "أنا أحب المرور بهذا السوق, ففي بعض الأحيان تعجبني بعض الحاجيات فاعتمد على شرائها لكوني أعدها أنتيكة, فقد كان في السابق يعد هذا السوق محطة اهتمام السائحين الذين تعج بهم مدينتي كربلاء الحبيبة".
غياب القانون
فيما قال أبو مرتضى حرفي في أحد المحال: "إن عملنا جميل ولديه زبائنه ومن يملك الحس الذوقي يبحث عنا, لهذا مازال الكثير يبتاع من الأواني النحاسية التي نصنعها وهناك طلبيات تكون خاصة نعمل وفقها لزبون معين".
وأوعز إلى: "إن سبب تراجع الوضع نتيجة غياب قوانين تحمي المنتج المحلي ودعمه".
فيما قال عدنان البديري أحد العاملين في السوق: "إن ارتفاع أسعار المواد الخام الخاصة بالنحاس هي أحد اسباب تراجع العمل لأغلب الحرفيين والتجار, إذ أصبحت أسعار النحاس خيالية مما جعلهم يفضلون بذلك الاستيراد بدل التصنيع المحلي, وهذا الأمر انعكس سلبا علينا نحن العاملون, إذ اصبح القليل جدا منا يمتهن هذا العمل".
وأضاف البديري: "إن لكل عمل معوقات, إذ يمكن ايجاد حلول لها لو تدخلت الجهات المعنية بذلك, مثل اعادة اعمار السوق ليكون مؤهلا مثلما حصل بسوق الخفافين, وأن تسهل على التجار عملية بيع المواد الخام, وذلك لتخفيض أسعار المنتج المحلي بما يناسب المستورد ليتمكن الزبائن من شراء المنتجات المحلية، فضلا عن توفر فرص عمل للكثير من الشباب العاطلين".
ومن جانبه قال الحاج أبو أيوب صاحب محل في سوق الصفارين: "لابد للمدينة من حاجة إلى سوق يلبي حاجة أهلها بعد الثورة الصناعية واستبدال الأيادي العاملة بالماكنة, فقد خفت ارجل الزبائن بسبب ذلك الاكتساح حيث تحول هذا السوق إلى اشباع فرد خاص بدل أن كان يشبع حاجة اشخاص بعمومها, وذلك حسب رغبة الزبون".
واستطرد موضحا: "لم يعد لدي ذلك الحماس في تلميع الصفر وصناعة الزخارف في الأواني كما في السابق, لما آل اليه السوق حيث إن الكثير أغلق محالهم وزاولوا اعمال أخرى, وما نراه اليوم هم شباب ورثوا مهنة اسلافهم حيث يعملون وفق أطر محدودة بهذا الجانب وطلبيات خاصة جدا, وفي الحقيقة يسعدني ذلك لشعوري بأنهم يحيون هذا السوق الذي ما زالت أروقته تحمل عبق الماضي في زواياه الضيقة".
مسك الختام
تعد الأسواق الشعبية منظومة تراثية تهتم وتتباهى بها الكثير من الدول, حيث ما زالت عالقة بالأذهان لدى الكثير من الصور والحكايات عن سوق التل الزينبي وغيرها, كما تغمرهم الفرحة لتأهيل وتطوير سوق الخفافين, إذ يأملون بذلك أن لا تنطمر معالم سوق الصفارين, وأن لا يتم استبدال أصحاب المحال مهنتهم بأعمال أخرى جديدة.
اضافةتعليق
التعليقات