عندما بدأ وجود أحد الأعزاء على قلبي يتلاشى أمام ناظريّ وكان يستعد للرحيل من هذه الدنيا، أسنتدتُ صدغتي إلى خزانتي وتحدثتُ مع نفسي لثوانٍ في ليلةٍ ملتهبة من شهر حزيران وقلت "ستبقى على قيد الحياة في قلبي!". ولكنني في الثواني ذاتها تذكرت بأنني سأرحل يوماً ما؟! فما هذه المعادلة المتشابكة؟! وبمن عليّ أن أستعين لحل لغزها؟!
في كل منا يوجد شخصٌ ميتٌ ولكن لا يزال حياً في قلبه وأحشائه، ينعاه يوما بعد آخر يشاركهُ في أعماله الصالحة، يهديه ما يحب أن يُهدى لهُ، فما أكثر الموتى وما أكثر من إرتحل ويملك ميتاً في قلبه استمر بالترديد طوال حياته بأن عزيزهُ سيبقى حياً في قلبه، وهذه معادلة لا نهاية لها، فالإنسان الحي سيصبح يوما ما ذكرى جملية في قلب فرد آخر وهكذا إلى ما لا نهاية، ونحن جمعياً سنبقى أحياء إلى آخر قلبٍ ينبض في هذا الوجود إذا ما أبقينا أفعالنا الحسنة وأفكارنا النافعة وأخلاقنا الدمثة تنمو من قلب إلى آخر أو في مجتمع بأكبره.
هناك رِباط وثيق يشدني دوما ويدفعني لأن أُهدي من رحلوا عنا بأجسادهم إلى عالمهم الفعلي بما تيسر ولكن لم أكن أعلم ما سبب ذلك!.
ربما أن ما يقوم به من لا يزال على قيد الحياة وإهدائه إلى من دُفن في قلبه هو نفسه لا يعلم لماذا يفعل هذا، ولكن هناك رِباطٌ وثيق لا ينقطع ولو دارت الدنيا ألف مرة، ألا وهو الحُب، شعور يعيش في جوفه هو الذي لا يزال على قيد الحياة وشعور يتغلغل في روح المتوفي فمن المحال أن ينقطع ما دام هذا الارتباط مبنيٌ على قاعدةٍ ربانية.
كنتُ أحاول أن أجد ما يعزز فكرتي عن فلسفة الرحيل عن هذه الدنيا فتساءلتُ مع نفسي في اليوم التالي وأنا في طريقي لوادي السلام في كربلاء عن قوله عزَّ وجلّ {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} فكل منا نبتَ من الأرض؟! فأجابتني الأرض حينها بواسطة الشجرة التي نمت في وحلها المنتن وقالت أجل!.
وأضافت الشجرة وأنا أيضا أنتجُ ثماراً، الثمار إما أن تكون ما لذ وطاب أو أن تعود إلى الوحل من دون أي منفعةٍ تُذكر، الثمار هذه قد تكون صالحة أو قد تكون طالحة مثلكم أنتم البشريون، الثمرة تدخل إلى أجسادكم وتساهم في بنائه ونموه.
قلت حينها رجاءً توقفي توقفي.. لقد توصلت إلى ما أصبو لهُ، نعم لدينا أن الإنسان الذي يوصف بالثمرة النادرة هو الذي يبقى ذكراه من قلبٍ إلى آخر، هو الذي يسهم في نمو العقيدة الراسخة السليمة والعقل المنتج المبدع، هو من يختار ما يحب أن يكون في المستقبل من خلال ما يبثه في أرواح من هم حوله. فتذكرتُ حينها المتميزون ممن استغرقوا لحظات من أوقاتهم لإسعاد فرد ما بمساعدة أو بنصيحة قدموها فسَكَنوا في قلوب المُحبين سنوات أطول نتيجة دماثة أخلاقهم وأرواحهم التي امتزجت بروح المتلقي.
إنتزعتُ نفسي عن التفكير في هذا الباب لليالي، وفي ليلةٍ حارقة من شهر تموز تذكرتُ ما سمعتُ والدي يوماً يقوله وحاولت أن أطبق ما سمعته على نفسي، فقال حينها: السمكة التي أُرغمت على الخروج من الماء نشاهدها تقاوم وتتحرك بأقصى قواها حتى تعود للماء. فوجدت بأن كل فرد منا يجد صعوبة بلعيش في هذه الدنيا لأنهُ أُخرج من مكانة الفعلي وهو عالم الجِنان.
صرخت في نفسي بنعم وعدت من جديد، أن الإنسان بالمثل يعيش في هذة الحياة، على الرغم من الصُعوبات والآلام التي يواجهها من أبسط مرض يتفشى في أحشاءه إلى آخر لحظات احتضاره، فيقضي سنوات من الاختبار الرباني في كوكب الأرض من أجل أن يُعمِّرها ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}، يا إلهي، المعادلة تزداد تشابكاً!، أجل إن الإنسان يخضع للاختبار الرباني الذي يقول {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فغاية الخلق من أجل إختبار الإنسان بما أنتجه في حياته!.
وفي ليلة تموزية أخرى تلك التي تنَمَّقَت باشتياقي لقطرات المطر في هذا الشهر الجَهَنّمي، تذكرت اللحظات الجميلة في صغري وأنا أستمتع بصوت تلك القطرات عند هطولها، نعم لقد كان لها الأثر الجميل الذي ارتبط بذكريات أجمل، كانت كاللؤلؤ المتساقط من جوف صدفة بيضاء فكانت السماء تبتسم لنا وترسل لنا لآلئها، كانت دوما تنقلني إلى عالم جميل من الخيال، أشعر أن هذه القطرات هي المكون الأساسي التي تمزج الأفكار في العقل الذي يحملها بكل سعة لتظهر برأي فحل ذات فكرة جديدة وتؤدي إلى لوحة ذات مغزى.
فالأرض التي تحفرُ فيها قطرات المطر فتفتتها بهذا السقوط المتتالي أظن أنها تسعدُ بهذه القطرات رغم الآلام التي تواجهها لأن الثمرات بحاجة لسقاية بقطرات من ماءٍ طُهر {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}.
لهذا نرى حُبنا الفطري لقطرات المطر وتأملنا حين سقوطه ودعائنا الفطري خلال هذه الدقائق المعدودة، لأننا نؤمن وبكافة جوارحنا بأنه سيُستجاب دعائنا تماما كَـ ١١:١١ التي عرفت بتحقيق الأمنياتِ التي تُهدى للسماء، فلكُل منا ١١:١١ خاصة به، هذه القطرات لا تزال تحفر في أجسادنا وتتغلغل فيها حتى تحين اللحظات الأخيرة فيتلاشى الجسم، ولأننا نهوى هذه القطرات فنحن لا نخشاها ولا نتألم بل بالعكس تماما، نعشقها لأنها تعود بنا إلى أصلنا فتُسقي أرواحنا حتى تكتمل وتعود من حيث أتت.
فهنيئا لمن في قلبي، ممن اكتملت أرواحهم ورَموا آلامهم خلفهم وعادوا إلى موطنهم الأصلي وكانوا ألذُ ثمرة في روحي..
النفس البشرية قوية بالله الذي نفخ فيها من روحه و(نحنُ الآن نكتبُ للغائبين؛ فمَن الذي سيكتبنا حين نغيب؟!).
اضافةتعليق
التعليقات