يمثل الامام الكاظم (عليه السلام) مدرسة متكاملة في دنيا الانسان في العلم والمعرفة، والصبر، وجهاد النفس والكلمة، التي عاشها الامام في حكم هارون الرشيد.
لقد كان عصر الامام زاخرا بالتيارات والمذاهب الفلسفية والعقائدية، والاجتهادات الفقهية، ومدارس التفسير والرواية.
كانت تلك الفترة التي عاشها الامام الكاظم (عليه السلام) من أخطر الفترات التي عاشها المسلمون، فقد تسرب الالحاد والزندقة، ونشأ الغلو، وكثرت الفرق الكلامية التي حملت آراء وأفكار اعتقادية شتى، وتعددت مذاهب الفقه، ودخلت علوم عديدة في استنباط الاحكام واستخراجها، كالمنطق والفلسفة والكلام وعلوم اللغة.
كما وادخل القياس والاستحسان والعمل بالرأي.
وحابى بعض الفقهاء والقضاة الحكام باستنباطهم الاحكام وقضاتهم، ورويت الأحاديث المدسوسة والاخبار المزيفة، فكانت الفترة الزمنية فترة خطرة في وجود الاسلام العقائدي والتشريعي.
وعلى الرغم من صعوبة الظرف السياسي وحراجته، وتضييق الحكام العباسيين على الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) إلا إنه لم يترك مسؤوليته الشرعية والعلمية لتصحيح المسار الاسلامي الخاطئ، بكل ما يملك من معارف إلهية.
الظرف السياسي:
لقد زخرت الفترة التي عاشها الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) بالحوادث والوقائع الخطيرة.
وكان أبرز ما فيها الثورات والسجون والملاحقات والقتل لآل علي (عليه السلام).
وهذه الفترة من حياة المجتمع الاسلامي تعتبر مظلمة من الناحية السياسية، حيث انتشر فيها الارهاب، والقتل على الظن بالتهمة، واستئثار بني العباس، ومن والاهم بالحكم والادارة والقضاء، والاستهانة بكرامات الناس، حتى صار السجن والضرب والقتل أمرا عاديا.
فمثلا سجل التاريخ أن الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي الذي كان من أخلص المقربين من الرشيد يجرد من ثيابه ويضرب ويهان ويلعن في المجلس العام بطلب من الرشيد، لأنه رفه عن الامام الكاظم (عليه السلام) وخفف عنه ألم السجن.
تميز عهد امامة الكاظم عليه السلام بسيطرة الطغاة وبشكل محكم على الأمة الاسلامية ولم يتم للطغاة ذلك إلا بالإرهاب وسفك الدماء حتى من أقرب المقربين من سدة الحكم الجائر، فلم يكن أحد آمناً على نفسه من بطش الجبارين والمستبدين حتى إن الفضل بن الربيع وكان من أبرز الساسة المقربين لهارون العباسي ومن أعمدة البلاط - يقول هو ذاته معَّبراً عن مدى خوفه من هارون رغم شدة قربه منه حيث يقول:
كنت ذات ليلة في فراش مع بعض جواريِّ، فلما كان نصف الليل سمعت حركة بباب المقصورة، فراعني ذلك، فقالت الجارية: لعل هذا من الريح، فلم يمض اليسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح وإذا بمسرور الكبير خادم هارون الخاص قد دخل عليّ فقال لي: أجب أمير المؤمنين ولم يسلم عليّ، فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور ودخل علي بلا إذن، ولم يسلم، فليس هو إلا القتل وكنت جنباً ولم أجسر أن أسأله انظاري حتى اغتسل فقالت لي الجارية: لما رأت تحيري وتبلدي ثق بالله عز وجل وانهض فنهضت ولبست ثوبي وأنا أرتجف خوفاً، وخرجت معه حتى أتيت الدار فسلمت على هارون حيث رأيته جالساً في بعض غرف القصر، وهو على فراش نومه فرد عليّ السلام فسقطت حيث انهيار الأعصاب فقال: تداخلك رعب؟ قلت نعم فتركني ساعة حتى سكنت (إلى آخر القصة).
ويظهر من القصة مدى الخوف والارهاب والاستهانة بكرامة الانسان حتى لأقرب المقربين وإن كان من أعمدة السلطة.
أما سائر الناس، فكانوا يرتجفون كالسعفة من هؤلاء الطغاة الظلمة، فقد نُقل إن يحيى البرمكي لما قدم إلى بغداد لتدبير عملية قتل الامام موسى بن جعفر عليه السلام فوجئ الناس به واستولى الذعر والخوف، وانتشرت الاشاعات، وترقب الناس الشر.
وكما يذكر العلامة المجلسي عليه الرحمة ما نصه: ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد فماج الناس وأرجفوا بكل شيء.
فالناس في بغداد الوسيعة والتي بلغ نفوسها عشرة ملايين كما يذكر المؤرخون يرتجفون خوفاً ويموجون ويرجفون بكل شيء من مجيء أحد جلاوزة الخليفة.
والقصص والوقائع الشاهدة على ارهاب العباسيين سيما هارون كثيرة تُراجع في مظانها.
منذ تأسيس الدولة الاسلامية على يد الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وتوسع الدولة وتعاظمها وضع أسس كان في قمتها الحرية وعدم الاستبداد حتى أنه يذكر إن أمير المؤمنين عليه السلام وهو يحكم ما يعادل خمس وخمسين دولة في زماننا هذا، كان حبسه عبارة عن فجوة صغيرة من القصب لم يوضع فيها أحدا إلا اضطراراً ولأيام معدودة، إلا أن الظالمين والمستبدين عندما استولوا على السلطة نتيجة غفلة الناس وجهلهم وابتعادهم عن الإمام وآل رسول الله صلى الله عليه وآله ونهجهم القويم، أخذ هؤلاء بتوسعة السجون وابتكار أنواع التعذيب حفاظاً على سلطتهم المغتصبة اللاشرعية وفيما يلي مثال لذلك:
سجون الحجاج بن يوسف الثقفي
كان سجن الحجاج بن يوسف الثقفي يحتوي على مائة وعشرين الفاً بين رجلٍ وامرأة، عارين من اللباس، يعيشون تحت الشمس اللافحة نهاراً والبرد القارص ليلاً، وكان قد أمر السجّانين أن يكونوا على سور السجن فإذا أراد أحد أن يتكئ على الحائط في وقت الظل رموه بالنشاب من على السور حتى يتحول إلى الشمس، وكان أحدهم اذا تكلم وتضرع يتلوا عليه السجان قوله تعالى: «اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ» المؤمنون 108.
وكان يأمر الحجاج أن يعطى السجناء الخبز الممزوج بالرماد والماء الممزوج بالملح، وكان سجنه يسبب تغيير لون الانسان الذي يعيش فيه لمدة، حتى إن الأمهات لم يكن ليعرفن اولادهن إذا زرنهم بعد اصرار كثير لتغير وجوههم وعدم حلق رؤوسهم وقص أظفارهم، إذ كان كل ذلك ممنوعاً في داخل سجون الحجاج.
وكانت المرافق في السجن عارية مكشوفة، فكل سجين يجب عليه ان يتخلى حيث يراه الناس، إلى غير ذلك من موبقات سجن الحجاج، كما ينقل التاريخ أنه نبش اثنين وعشرين الفاً من القبور الموجودة في ضواحي الكوفة واحرق بعض الجثث.
هذا في عهد الحجاج والامويين أما في عهد هارون والعباسيين فقد طُورت أساليب التعذيب أكثر من ذلك منها اسلوب الأعمدة المجوفة حيث يبنيها وبضع الانسان فيها ثم يسد فوهة العمود فيبقى المعذب فيه حتى يأتيه الموت بتلك الحالة.
هارون وعمليات التصفية البشعة:
كما إن هارون كان يقتل الناس بالسم والسيف وقد قتل الامام موسى بن جعفر عليه السلام بعد سجنه ما لا يقل عن أربع سنوات، واهانته له وتسليمه إلى السندي بن شاهك المجوسي الذي كان من أقسى جلاوزته، فسجن الأمام عليه السلام في المطمورة، وجعل على يديه ورجليه وعنقه قيوداً ثقيلة حتى إن بعضهم ذكر أن القيود كانت تساوي أربعمائة كيلوا غرام، كما إن السندي بأمر من هارون كان يضرب الامام عليه السلام بالسياط بغير جرم ولا ذنب، وإنما كل ذنبه أنه حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه الامام الشرعي، والخليفة من الله سبحانه وتعالى على الخلق أجمعين، وإنه كان مشغولاً على الدوام بالعبادة والزهد والفضيلة والتقوى إلى أن سقاه السم وقتله مسموماً مظلوماً، فلم يكتف بذلك وإنما أمر بوضع جثمان الامام عليه السلام بكل اهانة على جسر بغداد ثلاثة أيام وكانوا يصيحون على الجنازة بنداء منكر، لكن لما تحرك الموالون للإمام عليه السلام في بغداد وخاف هارون من حدوث اضطرابات في البلاد أمر بعض أقربائه وهو سليمان بتدارك الموقف (وكان سليمان أيضاً من المجرمين الذي شهدوا فخاً وقتلوا الحسين عيله السلام وأصحابه وأهل بيته) فجعلوا ينادون بخلاف ما نادوا أولاً قائلين (ألا من أراد أن ينظر إلى جسد الطيب بن الطيب الطاهر بن الطاهر فلينظر إلى جنازة موسى بن جعفر).
وشيعوا الامام عليه السلام باحترام ظاهري حتى دفن عليه السلام في مقابر قريش.
وفي لهو هارون ومجونه وزناه وشربه الخمر وقتله للأبرياء ومصادرته للأموال قصص مشهورة مما سودت معه التاريخ.
إن معالم كل دولة لهيَّ دلالة على حضارتها وثقافتها وما تؤمن به وما تفتخر، أفهل يُعقل أن يفتخر المظلومون بمن ظلمهم أو يفتخر المؤمنون بمن خرج عن ربقتهم، لذا فمن الغريب أن يُقدّس امثال هارون والمنصور العباسي ومن على شاكلتهم من الظالمين الذي لم يأت في تاريخ الدنيا من المجرمين أسود منهم اجراماً ويسمّون المدن بأسمائهم (كمدينة المنصور) والشوارع بألقابهم (كشارع الرشيد) في بغداد وما أشبه بينما الواجب أن يفضح هؤلاء، وأن لا يذكروا إلا بكل سوء يليق بهم، لا أن يمجّدوا ويرفع من شأنهم فهذا هو الواقع ولكن هل من...؟.
اضافةتعليق
التعليقات