الأمور تتغيير والمقاييس تتبدل والمفاهيم تنقلب وكل ذلك يجري بين ليلة وضحاها.
بالأمس كان الارهاب يتخذ عنوانا واضحا ومحددا والجميع بلا استثناء يفهمه ويدرك معناه، ولا تنطلي عليه لعبة الأبالسة حين يتلاعبون بالألفاظ ويتشدقون بالمعاني كي يوهموا الآخرين بأن الارهاب ليس كما يُدّعى ارهابا لا دين له، بل هو ظاهرة لصيقة بالاسلام ولطالما حذروا من الاسلاموفوبيا في أوساطهم.
يقول المفكر المصري الدكتور محمد عمارة في كتابه (ظاهرة الإسلاموفوبيا: الجذور التاريخية.. والنهايات المنتظرة)، (الإسلاموفوبيا: هي نزعة الكراهية للإسلام والتخويف منه، انطلاقًا من تزييف حقائقه الكبرى وصورته الأصلية والأصيلة، وظاهرة الإسلاموفوبيا هي ظاهرة غربية نشأت ونمت وتعاظمت في إطار الحضارة الغربية، وليس في إطار أية حضارة أخرى من الحضارات الإنسانية..
أي أنها قد عبّرت عن موقف الغرب الحضاري من الشرق الإسلامي إبان صراع الغرب لاحتواء الشرق والهيمنة عليه ونهب ثرواته وتحويله إلى تابع للمركزية الحضارية الغربية. ولأن هذه الظاهرة قد نشأت وتبلورت ونمت وتطورت تعبيرًا عن عداء الغرب الحضاري للشرق الحضاري، فإن لها جذورًا تاريخية سابقة على ظهور الإسلام، فعداء الغرب الاستعماري للشرق سابق على ظهور الإسلام.
ومن ثم فإن سعي الغرب للهيمنة على الشرق- قبل ظهور الإسلام- قد شهد ظاهرة العداء الغربي للثقافة الشرقية وللمسيحية الشرقية، باعتبارها الهوية الحضارية التي تقف عقبة أمام هيمنة الغرب الإغريقي/ الروماني/ البيزنطي على الشرق، واحتوائه وإذابته في النموذج الحضاري الغربي..
إن الروح السارية في الحضارة الغربية على امتداد تاريخها منذ جاهليتها اليونانية وحتى الآن هي روح القوة والصراع، ولذلك كان تاريخ هذه الحضارة مع الحضارات الأخرى وخاصة الحضارة الشرقية مليئة بموجات الغزو والهيمنة والاحتواء.
عشرة قرون هي عمر الغزوة الإغريقية الرومانية البيزنطية، التي بدأها الإسكندر الأكبر (356 – 323 ق.م) في القرن الرابع قبل الميلاد. والتي امتدت حتى هرقل (610 – 641م) ـ في القرن السابع للميلاد. وقرنان من الحروب الصليبية (489 – 690هـ 1096 – 1291م) التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية، والتي جندت فيها فرسان الإقطاع الأوروبيين، وأموال المدن التجارية الأوربية كالبندقية وجنوة وبيزا).
اليوم وبعد هجمات الارهاب المتكررة على مساجد المسلمين في الغرب، اتضح فعلا أن الارهاب لا دين له.. وإذا أصر الغرب على اسطوانته المشروخة ومقولته الممجوجة والتي أوجع رؤوسنا بها من أن الاسلام هو دين الارهاب وليس سواه، فهو بذلك يكون قد جنى على حاله، وحكم على نفسه إما بالحول أو بعمى الألوان.
القتل قد لا يجري بدوافع دينية أو مذهبية فقط، بل يتم أحيانا بدوافع عنصرية مقيتة، ولا أدل على ذلك من النزعات العنصرية التي توضحت معالمها بشكل جلي مع مجيء الرئيس الامريكي (ترامب) إلى سدة السلطة، فلقد كان ولا يزال ذو نزعة عنصرية واضحة، يقرؤها كل عاقل منصف في العالم.
وقد يحلو للبعض ممن تأثروا بهذه النزعة العنصرية التشدق بآرائه علانية دون حياء أو خجل، فالقاتل الذي صب وابل رصاصاته على رؤوس المصلين في مساجد نيوزلندا لا يتورع من ذكر تأثره ب (الظاهرة الترامبية) إذا صح التعبير، ولا يجد بأسا من الاقتداء به وبعنصريته الشوفينية.. فقد ترك بيانا (مانيفستو) معاديا للمهاجرين من 74 صفحة شرح فيه من هو وأسباب تصرفاته. وقال إنه أسترالي أبيض عنصري يبلغ من العمر 28 عاما، ويحمل أفكارا فاشية.
إن كلمات ترامب حول تعصبه ضد الاسلام مهمة للغاية، ولا يمكن اغفالها بأي حال من الأحوال، لأنها لا تصدر من شخص عادي وإنما من رئيس دولة عظمى، والبعض يستخدمها لنشر الكراهية حول العالم.. والمتعصبون يستلهمون كلمات ترامب وتصريحاته وتغريداته، كما هو الحال عندما استشهد القاتل في نيوزيلندا بها كرمز للحفاظ على الهوية البيضاء.
(ومن الواضح تماما أن هناك معياراً مزدوجاً في التعامل مع جرائم الكراهية، فيكفي أن نستبدل كلمة أسود أو يهودي محل كلمة مسلم لندرك حجم هذه المعايير المزدوجة التي يتم التعامل بها، فالتعصب ضد الإسلام يبقى دون ردة فعل ولا محاسبة بعكس أي تمييز آخر ضد يهودي أو أسود).
واليوم نحن بانتظار الحكم الصادر بحق القاتل العنصري، الذي أزهق أرواح أكثر من خمسين شخصا مسالما داخل دور العبادة، هل سيتم القصاص منه بالاعدام، أم بأحكام مخففة لسنين معدودة، ليخرج بعدها ويكمل مسلسل الكراهية بفصول جديدة وجغرافيا جديدة؟!
اضافةتعليق
التعليقات