بعد أن فشلت كل محاولاته المتكررة بمراجعته لعيادة الطبيب النفسي لكي يخرج نفسه من الأزمة النفسية التي وقع بها، بات اليوم يلازم الدار وأصبح حبيس الخيبة والحزن كعاجز وما هو بعاجز !!
ويلوم نفسه كل لحظة ....
يحاوطه اهله معاتبين له أسفا وألما لحاله وندماً على ما ارهقوه فيه حتى حطموا شبابه وطاقاته، فهم اليوم يلوذون بالدعوات راجين من الله ان يعود لهم كما كان !
إنه (عبد الله) الشاب الذي يبلغ الثانية والعشرين من عمره، كان يتمتع بمستوى دراسي جيد جداً ومسيرته الدراسية موفقة، حتى وصل لصف السادس العلمي، من هنا بدأت قصته......
فكان كل يوم يعاود عليه اهله الكلام المعهود:
"املنا بك، عليك ان تحصل على معدل يؤهلك للسلك الطبي، الطبي لاغير"، فلازمه الخوف من ان يخيب ظن اهله، ولما حان موعد الامتحانات اصابه ارق وقلق شديد منعه من الدخول للقاعة الامتحانية في الدور الاول، وفي الدور الثاني ساء وضعه الصحي......
وحين اقترب موعد الامتحانات قرر أن يترك الدراسة وهجر مستقبله الى اشعار اخر!
علاوة على الحالة النفسية التي منعته من ممارسة حياته بشكل طبيعي حتى اليوم صار جليس الدار، هذا حال عبد الله والكثير من الطلاب اليوم الذين كانوا ضحية مجتمع اصبح معتوه الافكار يرغم اولاده لعمل اشياء خارجة عن طاقتهم وقدرتهم العقلية.
فنحن نشهد وضعا مأساويا يسيطر على احلام واهداف شباب المستقبل، يسندهم بذلك نظرة المجتمع وتقبله، فنرى ان ميول الاباء اصبحت نحو جعل كل ابناءهم اطباءا وصيادلة، وترك كافة التخصصات الاخرى، وان لم يحققق ابناءهم ذاك الهدف، يملون عليهم خيارات اعادة السادس، او الدخول في الكليات الاهلية التي ترهق الوضع المادي للاهالي، او يبقى الطالب حبيس اللوم والالم،
فيذهب للجامعات الاخرى ولايعدو دوامه سوى اداء واجب لاغير دون حب للمهنة التي سيمارسها في الغد، فتتشتت احلامهم ورغباتهم رضوخاً لطلب والديهم.
ولكي نتعرف اكثر على تداعيات الامر ومسبباته، قام (موقع بشرى حياة) بالاستطلاع حول هذا الموضوع والتقينا بالمعنيين بالامر وامهات لبعض الطلاب لمعرفة الاسباب.
الافكار المغلوطة
وكانت بدايتنا مع المدربة في التنمية البشرية وأم لثلاثة طلاب السيدة (وفاء صالح) حين قالت: السبب الاول هو المعلومات والافكار المغلوطة التي نقلها الاجداد الى الاباء ثم طبقها الاباء على اولادهم، ومن هذه الافكار هي ان الدكتور هو صاحب الشهادة او الوظيفة الوحيد الذي يكنّ له المجتمع احتراما وتقديرا فائقا كذلك ربحهم المادي مرتفع. وللأسف مانشاهده ونسمعه في الاعياد مثلا أن الاهل والاقرباء كلهم يدعون للطالب ان يكون دكتورا في حين ان الله ذكر في كتابه الكريم:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ومن هنا نستدل ان احترام الشخص ومحبة الناس وتقديرهم يأتي بالتقوى والخلق الحسن اذا كنا مؤمنين بتعاليم الله ونطبقها.
اما بالنسبة الى الربح المادي فقد اثبتت دراسات قام بها عدد من علماء النفس والمختصين مفادها ان نسبة 90 الى 95 بالمئة من اثرياء العالم هم بدؤوا من الصفر أي كانوا فقراء، ومهمتنا ان نلغي هذه الافكار المغلوطة الفادحة لتأثيرها السلبي على ابنائنا.
اما (هدى) فهي فتاة في السابعة عشر من عمرها، لاتنفك تفصح عن قلقها بين الحين والإخر من المرحلة المقبلة وعندما سألناها عن السبب قالت: ابي اجبر اخواتي على اعادة السادس عندما لم يوفقن في الحصول على معدل عالٍ لان مستواهن يتأرجح بين المتوسط والجيد، لكن محاولاتهن لم تجدي نفعاً، وكلتاهنّ اليوم في كلية العلوم.
تنصب اليوم كل آمال والدي بشخصي، فهو قام بنقلي لمدرسة بعيدة جدا عن منزلنا مدعياً انها مدرسة جيدة وستساعدني على تحقيق حلمي، "اخشى اليوم من ان ادخل السادس، اتمنى لو انني اموت قبل ان اصل لامتحاناته ولا اخيب توقعات ابي !."
بينما تذكر (رباب) رأيها قائلة: ان المضغ الغير صحيح للأكل غصة..
فإن بعض الكلمات تسبب غصة تخنق القلب والعقل كلما حاولا تقبلها، لازالت كلمة صديقة الطفولة تسبب لنظرتي للمجتمع غثيانا والذي كان ولا زال يتفشى بين صفوف وطبقات المجتمع المختلفة،
لما كنا في الصف الرابع الابتدائي وطلبت منا المعلمة ان نخبرها ما نود ان نصبح حين نكبر، فتهادرت عليها الاجوبة، ولما وصل الدور لصديقتي دعاء، قامت وابتسامة كبرى على محياها وكلها ثقة ويقين وهي تقول: "ست بابا يكولي صيري لو دكتوره لو ثورة"!.
واكملت حديثها قائلة: "ست دكتورة يعني معلمة واي وظيفة ثانية"، اذكر كيف صفعني جوابها رغم صغر سني، حيث كنت ادرك فداحة ما تقول!.
اليوم ونحن في فترة المراجعة لطلاب الصف السادس الاعدادي، تُعاد على مسامعي جملة صديقتي بصيغ مختلفة، اقل وطأً بالمفردات واكثر ايلاما بالطرح، حيث امسى الشارع العراقي لايتقبل ولايحترم ولايقدر إلا من كان ضمن السلك الطبي، علاوة على الضغط الكبير من قبل الاهالي على ابنائهم للدخول لهذه الاختصاصات حتى عند عدم توفر القدرة والقابلية!.
(ام محمد) وهي أم لاربعة من الايتام كانت تصبو امالها نحو ابنها الاكبر الذي يدرس في مدرسة خاصة للمتميزين، الآن تطرق ابواب جيرانها باحثة عن حل للوضع السيء الذي يحاوط ابنها محمد بعد ان اعاد مرحلة السادس، وعندما سألناها عن سبب اعادته وما وصل اليه، قالت: ابني كان يتمتع بمستوى عالٍ جدا وحين ادى الامتحان في العام الماضي حصل على معدل ٨٩ وهو معدل جيد وقام بتأجيل ٣ مواد، توسلت اليه كثيرا فرفض ان يمتحنهن مدعيا انه لن يستطيع ان يحصل على درجات تؤهله لكلية الطب.
وأردفت قائلة: اقنعته ان يمتحن دون اعادة حتى وان لم يكون طبيباً فكل التخصصات الاخرى جيدة، رفض مدعياً ان اصدقائه لن يحترموه وسينظرون اليه على انه اقل منهم.
والان هو داخل في حالة نفسية مضطربة جدا لايستطيع ان ينظر لكتبه حتى انه يخشى ان لايصل لدرجة النجاح، اعربت الام عن حزنها وختمت كلامها بدموعها على حال ابنها.
يقتنع الابناء بكلام المحيط الخاطئ ويرمون بأنفسهم نحو الهلاك وفي نفس الوقت لايجدون من ينتشلهم من وضعهم، فإن قناعات الاباء تشكل قناعات للابناء لاتتقبل التغيير.
ختاما، اليوم نرى ضياع الطلاب وقتل احلامهم وبرمجة عقولهم على هذا المنهج الخاطئ منذ الصغر، لربما يكون الحصول على التعيين المركزي سبباً يجعل المجتمع يجنح للسلك الطبي مع شبه انعدام الدرجات الوظيفية في التخصصات الاخرى والازمة الاقتصادية التي يمر بها البلد، لكننا نرى في الوقت ذاته أكثر الداخلين للتخصصات الطبية هم أقل كفاءة في هذا المجال فنادرا ما تجد من يتقن المهنة التي يمارسها في المشفى والعيادات، وواحدة من الاسباب ان بعضهم يدخلون جبرا في هذا المجال وهذا امر خاطئ وعلينا محاربته بشتى الطرق، بإيجاد سبل توعوية وتثقيفية للآباء بعقد ندوات تنموية لتغيير المفهموم الخاطئ الذي بات يسيطر على واقعهم، وايضاً توعية الطلاب في مدارسهم وتحبيب التخصصات الاخرى اليهم، ومعرفة طموحاتهم ومساعدتهم على تحقيقها والوصول اليها.
اضافةتعليق
التعليقات