تفهم الثقافة غالبا بأنها الباب الواسع أو الواجهة العامة لتعريف الناس بطبيعة البلدان والشعوب في العالم، والساحة الواسعة لعرض الأفكار والتقاليد والطقوس التي تتمتع بها كل دولة عن الأخرى..
ولأن كل دولة تختلف في طبيعتها أو لغتها أو عاداتها عن الدول الأخرى، يمكن من خلال ذلك ملاحظة الفرق الشاسع والتمييز بين ثقافة البلدان والطوائف بسهولة تامة..
وإذا تطلعنا بصورة شاملة سنلاحظ أيضا بأن اختلاف الثقافات لا يقتصر على البلدان فقط، بل على الأديان أيضا، إذ إن الثقافة الإسلامية تختلف كثيرا عن الثقافة المسيحية، مثلما تختلف الثقافة الغربية عن الثقافة العربية... الخ.
وبالتأكيد يعود السبب إلى إن كل بلد أو طائفة أو دين يحاطون ببعض القواعد أو الأعراف التي لا يمكن اختراقها أو تجاوزها من قبل أهلها.
وبما أن الثقافة الغربية تمكنت من الساحة العربية بصورة كبيرة، ودخلت إلى ارجاء البيت العربي بطريقة مادية من خلال الألبسة التي استحلت الأسواق بطريقة فظيعة، أو على الطريقة العقلية التي يتجاوز خطره فكرة (الستايل الغربي)، إلى التلاعب بالأفكار وتنظيم العقل العربي وفق المنهج الغربي الذي لا يخضع لأي قاعدة إنسانية وإلهية، والتي لا تتناسب حتى مع الأخلاقيات العربية الشرقية الحميدة التي تتوفر في الشعوب العربية، كالغيرة، النبالة، الوقار، المجاملة، الشجاعة، والكرم.
كما أن مسألة التبادل الثقافي من المسائل المهمة التي يعتمد عليها تطور البلد على الصعيدين العلمي والعملي، فمن خلالها تتمكن الدول من تبادل المعلومات والخبرات وكل الأبعاد الايجابية التي تعود بالنفع على الأمم.
فالهدف الأول من التبادل هو ترميم ثقافة الدولة والعمل بجدية في بناء العناصر الثقافية غير المكتملة، فمثلاً لو كنا نعيش في بيئة تعمل بجدٍ تحت أسس وقوانين معينة ثم ومن جراء التبادل تعرفنا على أسس دول أخرى تعطي أهمية كبيرة للوقت وتمجد ساعات العمل بصورة راقية، فمن هنا نستلهم منهم أهمية وقت العمل، وابداء الاحترام للعمل المنظم تحت أسس وقتية تعود بالنفع على الفرد العامل والمجتمع.
وعلى أثره يتبين لنا بأن التبادل هو أمر ضروري وواجب لارتقاء الدول والشعوب، وإن أي أمة لا يمكنها الاستغناء عن الاستفادة من الأمم الأخرى في كل المجالات والأصعدة وبالأخص المجال الثقافي الذي يحتاج إلى آفاق واسعة تمتد إلى تواريخ ومساحات غير محدودة.
وإن فكرة التبادل ليست بالأمر الجديد، إذ ان كثيرا ما نسمع عن انتشار الدين والعادات والتقاليد بين بلدان معينة، إذ ان هذا الانتقال الديني والقبلي كان يحصل على أثر الرحلات والتجارات الحاصلة في ذلك الوقت.
ولكن ما نشاهده اليوم في ظل التقدم العلمي من تبادل ثقافي لا يمت بالإيجابية والانتفاع بأي صلة، فتشابه المصطلحات سبب خلالاً ديناميكياً على المواطن البسيط الذي يريد التطور بأي طريقة، وبأي معلومة خارجية تصادفه.
فالغزو الثقافي يعنى بشن قوة سياسية أو اقتصادية حرباً على المبادئ الثقافية لشعب معين، وذلك لتنفيذ الأهداف السياسية الخاصة والتحكم بعقول الناس حسب أهوائهم الشخصية وأذواقهم السامة، وعن طريقها يتم فرض أشياء جديدة ورؤى غير منطقية على دولة معينة بهدف السيطرة على عقول شعبها وترسيخ الثقافة الجديدة التي تهدف إلى نخر الأمة من الداخل.
فعلى وجه العموم، الأمور والمعلومات التي تدخل على الأمة المغزية لا تكون صالحة ولا إيجابية، ولن تعود بالنفع على البلد والشعب في كل حالاته، لأن الهجوم الثقافي يعطي الشعب الوجه الثقافي الذي يخدم مصالحه فقط ولا تقدم أي شيء نافع للطرف الآخر، فيعكس صورة سلبية ربما لا تتلاءم مع العادات والأسس الدينية التي كان يعيشها الشعب، وفي كل الأحوال لا يحصل هذا الهجوم إلا عندما تكون الأمة ضعيفة وغير قادرة على ردع القوة الخارجية والسيطرة على أركان دولتها من الداخل، فيبدأ العدو بنخر الثقافة من الداخل، ليتمكن من السيطرة على الأمة والتحكم بالعقول الموجودة كيفما تشاء.
ولكن مقارنة بالتطورات التي يشهدها العالم نجزم بأن ما نعيشه الآن في العالم الإسلامي هو أوج التردي والتخلف الثقافي، فمع اختراع أعظم التقنيات السمعية والبصرية وتطور المسارح والسينما إلاّ اننا نمثل اللاشيء من الإنجاز الإبداعي في توسعة الدوائر الثقافية..
وهذا مؤشر غير جيد أبداً، وإذا ما دلَّ على شيء فهو يدل على التقصير في هذا الجانب الذي يحمل على عاتقه تطوير المجتمع ذهنيا وتخليدا لأمجاد الأمة والسعي بها نحو الازدهار والتنور.
فالأداة الثقافية هو أمر ضروري جداً يمكن من خلاله تثبيت المبادئ والقيم في الأمة والعمل على تطوير الركائز الأساسية في المجتمع ضمن الحدود الشرعية.
والدين بكل حالاته هو أسلوب حياة، يعبر عن إنسانية البشر ويواكب جميع تطوراته، وإهمالنا للثقافة والابداع هو ما يجعل الدين الإسلامي يبدو بهيئته البدائية والتخلفية، مع العلم أن الدين هو دين التطور والعصرية، والدين الذي يرتبط مباشرة مع القلب والعقل، ولكن تقصيرنا هو الذي رسم هذه الصورة الشنيعة عن الدين للعالم وللأجيال الحالية.
لهذا السبب نجد شبابنا وبناتنا ينجذبون إلى الثقافة الغربية، أو الثقافة التي لا يحدها دين، لأنهم وجدوا الدين لا يلبي احتياجاتهم النفسية والتطورية، وفي المقابل وجدوا الغرب يقدمون الابداع على هيئة وجبة ثقافية دسمة مضافة إليها بعض المنكهات المحرمة التي تجعل الطبق أشهى وألذ.
فمثلاً التهاون بالقدرات الإبداعية وعدم احتضان الطاقات الشبابية جميعها تؤدي إلى خلق مشاعر اليأس عند شريحة الشباب مما يدفعهم إلى التنحي أو التشكيك بقدراتهم وابداعاتهم الذاتية مما يسبب حاجزاً يحد من تطورهم وتقدمهم في مختلف المجالات الثقافية، في حين الجهات أو الشخصيات التي لا تنجز شيئاً مهماً تحصل على فرص كبيرة وشهرة فادحة لا تتلاءم مع كيفية أو نوعية المادة المقدمة، إلاّ ان المادة أو الشخصية تلقى اهتماما ورواجاً لكونها تنتمي وتمثل الفكر الفلاني المضاد إلى الفكر الإسلامي المعاصر.
وقد قال أحد دعاة الفكر بأن الاستعمار الثقافي حريص على إنشاء أجيال فارغة لا تنطلق من مبدأ ولا تنتهي لغاية يكفي أن تحركها الغرائز التي تحرك الحيوان مع قليل أو كثير من المعارف النظرية التي لا تعلو بها همّة ولا يتنضّر بها جبين، وأغلب شعوب العالم الثالث من هذا الصنف الهابط.
ولتوخي الحذر من هذه الضربات من المهم جداً أن نمتلك الخلفية الرصينة التي تحفظ لنا النهج الثقافي الإسلامي الصحيح دون أن تتأثر العامة بالعوامل الخارجية.
كما ان فتح الآفاق الواسعة للمبدعين والمثقفين يوسع من الدائرة الثقافية في البلد، على أن تتوفر في المقابل فرص مهمة للشريحة المبدعة تحتضن من خلالها الطاقات وتصقل بصورة احترافية لكي تتمكن من تقديم ما لديها من ابداع، وتثبت وجودها الحقيقي في الساحة الثقافية.
ومن النقاط المهمة التي تحافظ على ثقافة الأمة من الانحطاط هو عدم السماح للثقافات الدخيلة من الوصول إلى بوصلة الحق لأن جلَّ تركيزهم سيكون على اضعاف الإيمان وتشتيت العقائد السامية ومحو الآمال من نفوس الشباب، ومن الضروري جداً تخصيص جهات معينة تراقب الكتب والبرامج والمقالات التي تطرح في الساحة الثقافية لتحلل الأهداف التي على أساسها تبنت تلك الجهات ترويج الثقافة وطرحها بصورتها المباشرة وغير المباشرة.
ولكن النقطة الأهم هو خلق البديل، والتركيز على طرح الثقافة بأطر دينية حديثة إلى العالم أجمع وتطويرها ومواكبة العصر بها من خلال استخدام لغات العالم الجديدة والأدوات الراقية التي تعكس أسلوب الدين بطريقة عصرية ومفهومة... لأن رسالة الدين هي رسالة عظيمة، إذن تبقى المسؤولية علينا في ايصاله الى العالم بأبهى الطرق المتاحة، والتبليغ عنه بكل الوسائل الممكنة.. وهذا يتطلب صرف مجهود حقيقي في تفعيل الثقافة والفن والعلم وكل الأمور التي سخرها الله لنا في خدمة الناس لهدايتهم إلى النور.
اضافةتعليق
التعليقات