كانت أُمي جالسة على سجادتها الخضراء تلك التي تحتضنُ التربة الحُسينية مع سبحة صغيرة زرقاء وأُخرى ذات الحبات الطينية وبجانبها قُرآن صغير، بعد أن أتمت سجودها، رفعت رأسها تمتمتَ ببعض الدعوات، ثم بعدها عادت وسَجَدَّتَ، فأرتفع صوتها وهي تقول:
اللهم لك الحمدُ حمد الشاكرين لك على مصابهم، الحمدُ لله على عظيم رزيتي، اللهم أرزقني شفاعة الحُسين يوم الورود، وثبَّت لي قدم صدقٍ عندك مع الحُسين وأصحاب الحُسين الذين بذلوا مُهجهم دون الحُسين عليه السلام..
بعد ما أتمت سجودها رفعت رأسها وتناولت القُرآن، وبدأت تقرأ بصوتها الحنون وتُرتل تلك الآيات التي ما زالت مُؤمنة إنَّ لا شيء يُحصن بيتها ومن فيه غير القرآن وأهله..
ما زلتُ جالسة أُراقبُ أمي بصمتِ، هذه عادتها مُنذ القدم ولكن لا ادري ماذا جرى لي أنا هذه المرة، لم أشأ أنَّ أُقاطع لحظات إتصالها الملكوتية تلك، بقيتُ ألتزمُ صمتي وعيوني تُحَّدق بها،
مرتَّ لحظات قليلة، طرقَّت مسامعي تلك الآية بصوتها الحاني: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ..).
قرأتُ القرآن كثيراً وسمَّعتهُ أكثر ولكن لماذا سماعي لهذة الآية هذة المرة قد أوقع في نفسي شعوراً لم أفهمهْ؟
صدَّقت أُمي، ورامت تحملُ سجادتها مع ما فيها لمكانها المُخصص، لم أستطع البقاء بصمتي، أُمي: توقفي قليلاً!
توقفتَ وهي تنظرُ اليَّ بعطف يُوحي أنها كانت تعلم بجلوسي مُنذ فترة ليست بالقليلة..
أُمي: هل ما زال هُناك من يبيع نفسه لله؟
فقد سمعتكِ تقرأين قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ..
جلست إيحاءاً منها أن الجواب سيطول!
إنظري وإسمعيني جيداً يا إبنتي..
قبل ١٤٠٠ سنة وقف بين جموعهم، بتلك العمامة الخضراء والسِمات الملكوتية التي ما أبصرها أحدُ حتى هام عشقاً فيها، بعيونه الواسعة تلك التي تتلألىء كأنها الجنة محصورة بين رمشين وحاجب، من يبيع نفسه أبتغاء الحُب، إبتغاء الشهادة، إبتغاء مرضاة الله؟
حين وصل الأمر لمبايعة يزيد اللعين ذلك الذي عاث بأرض الله فساداً لا يشبهُ أيَّ فساد على وجه الخليقة، كان لابد لسيف الله أنَّ يرفض، أن يعلن الثورة التي ستقلبُ معالم الأرض!
لم يخرجُ أشراً ولا بطراً، بل خرج رفضاً للظُلم والتعدي، سار بأهل بيته كواكب النور تحملهم نُوق البراق، حتى وصل الى أرض تُسمى (الشراف)..
الحُر بجيشه كان موجوداً لأجل ان يرغُم إبن بنت نبيه بالمُبايعة!
كان مع الحُسين بن علي صلوات الله عليه وأهل بيته جمعُ رغم قلته إلا أنه الفئةُ الغالبة، منهم من خرج معه ومنهم من ألتحق به بعد الخروج ومنهم من ينتظر!
شهيدنا الكربلائي كان هو (يزيد بن مُهاجر الكندي البهدلي)
يزيد! بلى يزيد
ولماذا وقع أختياركِ عليه من بين النُخبة؟!
لأن في النُخبة أسماء لم يُسلط الضوء عليهم، طالتهم يد الظُلم والتقصير، لم ننهلْ من علومهم، آثارهم، وذلك الشغف بسيدهم!
أنا لم أسمع به قط، ما هي قصة هيامه بالحق؟
كان يزيد من الرواة الثُقات، من تلك الثُلة التي يُعتمدُ عليها في تفسير الآيات والاحكام الواردة فيها..
يُعد أيامه بلياليها من أجل ذلك اللقاء الموعود، ذلك القُربان الذي تُؤرقه فكرة أن لا تتقبله صاحبة العزاء!
ينتظرُ تلك السنة التي سيولدُ معها شهيداً حُراً، بعد أنَّ تنسجُ يداه رداء الشهادة، ليُحلَّق به نحو الجنان..
جاء الحر بجيشه يُريد من الحُسين السبط ان يبايع! وكيف مثل الحُسين سلام الله عليه أن يُبايع مثل يزيد؟
نزل السبط من جواده فصلى الغداة، ثم عجَّل الركوب مرة أخرى وأخذ يُفرق أصحابه والحُر بالطرف الآخر يردهم ويرده!
كان يريدُ بهم الرجوع الى الكوفة وكانوا يمتنعوا إمتناعاً شديداً فأنتهى بهم الأمر الى مكان يُدعى نينوى!
نينوى!
طرقَ مسامع يزيد الكندي هذا الاسم!
مهلاً أيتها النفس، ها هي نينوى، هُنا ستُخط الشهادة على جيدي مثلما تُخط القلادة على جيد الفتاة!
هُنا يا يزيد ستحملُ بين كفيكَ دماءكَ الرخيصة لصاحبة العزاء راجياً إياها أنَّ تتقبَّلها بقبول حسن!
ما أجمل إسمكِ نينوى، ما أشد وقعه على قلبي، فعندكَ سأُعانق العلياء..
مازال يزيد هائماً في سماء نينوى حتى جعَّجع الحر بـ خيله، أدخل الخوف على بنات الرسالة، وما أن إنجلت الغبرة واذا بـ راكب مُقبلُ من الكوفة، وقف الجميع ينتظر من هو؟
ولما إنتهى إليهم سلم على الحُر وأصحابه ولم يُسلَّم على الحُسين وأصحابه سلام الله عليهم، دفَّع كتاباً من عُبيد الله بن زياد عليه لعائن الله الى الحُر، كان الكتاب يحتوي على شر ما كُتب، أستجارت منه ملائكة الرحمن وتبشرت فرحاً شياطين الجن والأنس:
أما بعد، فجعَّجع بالحُسين حين يبلغُك كتابي، ويقدمُ عليك رسولي، فلا تنزله إلا في العراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرتُ رسولي أن يلزمك ولا يُفارقكَ حتى يأتيني بأنفاذكَ أمري والسلام..
قرأ الحُر كتاب اللعين على مسامع السبط ومن معه، غلت دماء يزيد الكندي وكادت انَّ تتفجر في عروقه!
لمثل السُبط يُقال: جعجع وأنزله بلا حصان وماء!
نظر الى رسول عُبيد الله بن زياد عليه اللعنة وسوء العذاب، فقال له أ مالك بن النسر أنتَ؟ فأجابه اللعين نعم!
فقال له: ثكلتكَ أُمك، ماذا جئتَ به؟
قال: وماذا جئتُ به، أطعتُ إمامي، ووفيتُ ببيعتي، فقال له:
عصيتَ ربكَ وأطعتَ إمامكَ في هلاك نفسك وكسبتَ العار والنار، ألم تسمع قول الله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ.. فهو والله إمامكَ..
قالها وهو يُردد في نفسه: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ.. وهذا والله إمامي، ما أسعدني، وما أعظمُ حظي في السُعداء يَوْمَ (نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) فهنيئاً لك يا يزيد وإنت تُنادى يوم القيامة بسيدكَ ومولاك فيدخلك مورده وجنته، وتعساً لهؤلاء الذين ساروا خلف يزيد بن معاوية وأمثاله فيُنادوا بسيدهم فيدخلهم مورده وسعير نار الحاطمة..
ماهي إلا أيام يا يزيد، فمهلاً وكنُ صبوراً فالجنة أُزلفت للصابرين!
جاء اليوم الموعود، ذلك اليوم المُنتَظر، ويزيد يطيل التفكَّر!
ماذا أصنعُ لهذا العشق المتوقد بقلبي؟ أيُّ قُربان يرقى لتلك القسمات الملكوتية!
جاء دوري، جاءت لحظتي التي طالت، السلامُ عليك ياحبيب قلبي ومولاه، سأخرجُ الآن دونك وليت لي من اليد ألف تحملُ السيف دونك..
خرجت عيناه الى الامام وقلبه خلفه ينظر لمحبوبه، كيف حاله! هل إعتراه التعب والعطش!
أراد لحبه ان يُكتب بسطور من ذهول، أراد أن يُعلم التضحية درساً لن تنساه، خرج فارساً يُقاتل الظالمين بشجاعة لم يروا لها مثيل! حتى لجأوا لأرتداء ثوبهم من الخديعة والمُكر فهم أولاد من كشف عورته وألبسهم العار، ليعقروا قدم فرسه على هذا الشُعاع الذي برز اليهم خاطفاً أبصارهم يقف!.
ترجّل تاركاً فرسه، ليرمي بين يديَّ سيده مائة سهمٍ لم يسقطُ منها إلا خمس ودُعاء سيده يرمي معه اذ رمى، وحين سمع صوت مولاهُ يُحاوطه وهو يقول: اللهم سدَّد رميته، وأجعل ثوابه الجنة، ردَّ وهو يقول: اللهم أجعل ثوابي رضاه، اللهم أجعل ثوابي رضاه..
نفذت سهامه ومازال في القلب الكثير، فحمَّل عليهم مُقاتلاً، حتى مرت لحظات، إنجلى فيها كُل شيء، وأُستجييتَ دعوته ورجائه، فصاحبة العزاء تنتظرُ منه القُربان لتتقبَّله بقبول عظيم!
أمهليني هُنيئة أُودَّع فيها قسمات وجهه الدرَّية، أودعُ فيها تلك العينين التي أذبلها العطش فغارت!
سيدي، مولاي، حبيبي، لو كنتُ أملكُ غير هذه النفس لقدَّمتُها بين يديَّكَ رخيصة، سيدي عليكَ مني ألفُ سلام وحُب..
ذهب مُقاتلاً وهو يرتجزُ قائلاً:
يارب إني للحُسين ناصر.. ولإبن سعدِ تاركُ وهاجر!
مولاي ما السرُ في أسمُكَ حتى يكون أحلى من الشهد في ألسنتهم وقلوبهم؟! عجيبُ أمرك ياعجيب!
قاتل وقاتل حتى سقط قُرباناً بين يديَّ فاطم الطُهر، وإبتسامةُ مرملةُ بالدماء تعلو مُحياه حين أُستجيبتَ دعوته..
هذة قصة شهيدنا الكربلائي يا ابنتي، باعها إبتغاء مرضات سيده ومولاه، ونحنُ على الأثر نرجو الله ان يُثبَّت لنا قدم صدقٍ مع الحُسين وأصحابه سلام الله عليهم، وأن يكتبنا معهم..
ألسنا نقول في كل زيارة وحُب: ياليتنا كُنا معكم فنفوز والله فوزاً عظيماً!
إذن هذا يعني مازال فينا من ينتظر ليبيع نفسه إبتغاء مرضات الله..
اضافةتعليق
التعليقات