في تلك العِيادة يقف المرضىٰ في الطابور لوقت متأخر من الليل، وكالعادة كان الطبيب الشاب يأتي قبل نصف ساعة من الموعد.
كان نَحيلاً شاحب الوَجه ذو لحيةٍ كثّة، يحمل شهادة دكتوراه في "البؤس" لدرجة أنه يشم رائحة البائسين من مسافة ثلاثة إحباطات وخِذلانَين!
كان بارِعاً جداً.
وبالمناسبة، فقد إستبدل كلمة "پَيشنت" بــ "بائِس"، فهي مناسبة أكثر من وجهة نظره.
المهم، تمدد البائس الأول على السرير، مد الطبيب يده ليجسّ نَبض وريده، أحس بغليان الدم تحت إصبعه، ثم لوّى شفتيه وتمتم بكلمات بالإنگليزية
_ بائس وغاضب أيضاً؟
لاتقلق لاتزال في بداية الغليان، علاجك متوفر..
تناول قلماً ليكتب في "الراچيتة" بخط أشبه بخربشة الأطفال:
"صراخ بصوت عالٍ ٣ مرات في اليوم
وعند الحاجة: كسر أشياء زُجاجيّة أو تمزيق كُتب".
قام البائِسُ من على السرير وتوجّه إلى درج المكتب ليضع فيه مُغلّفاً من شوكولا قديمة و"رخيصة".. ويُغادر.
مَن التالي؟
تقدّم شاب في العشرين من عمره يجرّ قدميه جرّاً، سأله وقد همّ بوضع السّماعة على صدره، ممَ تشكو؟
قال وقد حكّ وجهه:
_ ألا يبدو ذلك عليّ؟.. طفحٌ جِلدي يادكتــ...
_ آه، واضح واضح، طفحُ اليأس منتشر هذه الفترة جداً، لابدّ أنها عدوى!
أجاب بصوت خافت:
_جُرعة من الأمل أليس كذلك؟
ردّ بإبتسامة ساخرة:
_ كلّا، لقد نفدت الكمّية، بالحقيقة ماتبقى لدينا إتضح أنه "إكسپايَر"
_ آه، الأمل أصبح قديماً إذن!
_ لا أُخفيك أن عمله أصبح تخديراً فقط، وكأنهُ يؤجل الشعور باليأس لفترة ثم يختفي مفعوله، لذلك توقفنا عن صرفه حَتى لانغّش مُراجعينا البائسين الكِرام.
على أيّة حال خُذ هذا الشراب لقد وصل إلينا حديثاً.. شراب" الخَيال" نصف ملعقة يوميّاً وستنقلك إلى عالم آخر، لكن إيّاك أن تتجاوز الجُرعة وإلا ستصاب بمُتلازَمة أحلام اليَقظة، وهذا مَرهَم "وعود زائِفة" ضعه كل أسبوع وستتحسن بإذن الله.
_ الهروب من الواقع هو العِلاج الجَديد..؟!
تبسّم بِبلاهة:
_ بالضَبط.
هيّا قُم، التالي؟
_ صُداع الأُمنيّات يؤذيني كثيراً، ومازاد الطين بلّة هو أني مُصاب بإفلاس الجيوب..
_ الأنفيّة؟
_ الماليّة...
رمى سمّاعته أرضاً فأصدرت ضجّة صغيرة..
_ ألاتفهم؟ كم مرّة قُلنا لكم توقفوا عن التمَنّي!
ألا تعلمون أن لبيئتكم تأثيراً سيئاً على الأُمنيات؟
تستمرون بنسج الأحلام والأماني وتُصابون بعدها بالإحباط وأنا مَن يَبتلي!
_ عفواً ولكن أليس هو فِطرة في الإنسان، أعني أن يحلم ويرسم الأمنيات و..
_ أوف ، يبدو أنك لم ترَ ماكُتِب على اللافِتة الموضوعة فوق تلّ "مكب نُفايات الأماني"، حسناً سأُخبرك، مكتوب فيها "أنتَ مواطن عراقي حافظ على نظافة مدينتك وأرمِ أُمنيّاتك التافِهة في مكانها المُخصص، لاتُساهم في تلوّث البيئة المُعادية للأحلام، كُن مُتعاوِناً".
_ وبالتأكيد يوجد غرامة على المُخالفين... حسناً وما العلاج؟
_ سأحقنك بتطعيم "شلَل الأُمنيّات الثُلاثي" سيعطيك حَصانة ضد الأماني والأحلام والتخطيط للمُستقبَل، ستعيش حياة عاديّة.. عاديّة جِداً.
ثلاثة في واحد، وإلتفَت إلى الواقِفين
_ ها، ليقُل أحدكم أن المُستشفَيات خالية من العِلاج؟
إعتلى صوت رجل عجوزٍ من بين الحاضِرين:
_ أستغفرُ الله أي تقصير؟
منذ ستون سنة وأنتم توفّرون لي كل العِلاجات اللازِمة، حتى أنني جِئتُ هذه المرّة كي أستلم مجموعة جديدة من" كَمّادات التسويف" لمُعالجة حُمّى المُطالَبة بتقاعدٍ وضَمان صِحي.
__________
اضافةتعليق
التعليقات