سكنت الغرفة العليا من المنزل المجاور لنا من فترة عائلة صغيرة، تتكون من أم و أب وفتاة تبدو في الخامسة عشر من عمرها، لا تبرح النافذة المطلة على شباكي.
منذ الوهلة الأولى لفتت نظري مسحة البراءة التي تكللها والابتسامة الرقراقة المرسومة على محياها عندما تلقي علي بتحية الصباح كلما مررت من أمامها.
سرعان ما توطدت العلاقة بيننا فقد كانت (سمر) فتاة حيوية، بشوشة لم تترك لظروفها القاسية أن تجعل منها سلة لمخلفات الزمن الغادر، إذ أفقدتها في غفوة من اللحظة ساقها إثر حادث سير أقعدها في بداية مراهقتها وشبابها، إلا أنها كانت مليئة بالحياة واسعة الأفق مصرة على بعض العادات التي أبت إلا ان تقوم بها، كالاهتمام بأناقتها وثقافتها، ومحاولة القيام بأعمالها الشخصية مهما كلف الأمر، حتى إنني اقتنعت بعد مشاهدة مثابرتها أن طرق الوصول إلى الهدف متعددة، فمتى ماتعذر السير في إحداها حول السالك مسيره إلى غيرها.
لا أنسى قولها يوما أن هناك من عبد لنا الطريق، بعدها ترك لنا خيار التوقف أو السير نحو الأمام ثم أننا لا نستطيع الجزم بالنتائج ولكننا ندرك تماما أننا لسنا كالماء الراكد الذي سينال منه الأسن بعد التوقف بالقطع واليقين.
أخذت مظاهر الفرح تضفر أكاليل السرور من بهجة الذكرى العائدة علينا كل عام في الأعياد الشعبانية، تلك التي تأخذنا في دروبها الضبابية إلى دهاليز الغيب حيث ينتهي الوهم ويتردد صدى الولاء مرة أخرى ليهز في من يهمه الأمر أوتار الحنين تباعاً، ويؤلف نغمة موسيقية تعزفها جوقات العاشقين.
كنت قد دعيت إلى حفلات متعددة، جعلت أفكاري موزعة في كيفية الاستعداد والتحضير في محاولة لإظهار طلة أنيقة.
في غمرة انشغالي فتحت النوافذ، لتهجم نسائم الربيع محملة برائحة التربة ورذاذ المطر المنهمر بلطافة ملامساً أوراق النبات المزهر في سندانتي.
وقع بصري على الشباك الذي تطل منه (سمر).
حركت يدها وهي تحييني؛ فخطرت في بالي فكرة جنونية علها تخفف عن قلبها المسكين ما كان ينوء تحته من ملايين الغصص المكبوتة.
فقلت بصوت تسمعه:
أستعد للمشاركة في حفلة الميلاد هذه الليلة ما رأيك بمرافقتي؟!
تسمرت مشدوهة ترمقني بنظرات عجزت عن تفسيرها. قالت بخجل:
ولكني لم أحضر إحتفالاً منذ سنين!
لم أترك لها خياراً مفصلاً، فأجبتها:
هيا لا تترددي سوف أساعدك لتستعدي.
كانت خزانتها ملأى بصنوف الألبسة الفاخرة التي بان عليها ألم الهجران وهي حبيسة طي النسيان.
اخترت لها فستاناً أبيض من القماش الراقي المزين بزركشة من على الكتف نزولاً للخصر، مرصعاً بأحجار تغمز الناظر بلمعات مغرية، ثم صففت لها شعرها البني فانسدل متبعثراً على كتفها في انسياب أوغل في الحسن والجمال.
دلفنا إلى القاعة. كانت مظاهر البهجة والفرح بادية في كل شئ، من صنوف الزينة اللماعة،
والبالونات الملونة الهابطة من فوق السقوف، إلى أغصان الورد الفواحة والصحاف الملأى بمختلف أنواع الطعام، والحلويات والسكاكر اللذيذة التي لم تسلم من أيدي الأطفال اللاعبين وهم يرتدون الفساتين الجميلة كأقاحي النارنج في نيسان.
كان يشع من عينيها بريق السعادة والعنفوان، كأنها تخوض سراباً وهمياً أبى إلا أن يتحول حقيقة في هذا اليوم؛ تبتسم، تضحك وتشارك الآخرين فرحهم، بينما احتشد حولها الصغار يناوشونها السكاكر وأغصان الورد كعربون صداقة. عدنا مساءً وقد انقشعت عن (سمر) غمامة الهم وهي لا تكف عن سرد الأحداث السارة والكم الكثير من الناس الذين شاهدتهم والتقت بهم.
فراحت تغرقني مسرورة بوابل من كلمات الشكر والامتنان التي زفت في نفسي بوادر الإحسان، ثم حلت اللغز في أفكاري المتبعثرة بنظريات حول الحديث الشريف المنسوب للإمام الحجة(عج):
(إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء _ أي الشدائد_ أو اصطلمكم الأعداء) بحار الأنوار/ج13.
فرعايته عجل الله تعالى فرجه الشريف ظاهرة في بصيص الرحمة الخفي الذي في قلوبنا......
يتجلى حضوره المبارك في كل صدقة ما زالت تحمل رسالة الرأفة، في كل مرة زهرت بذرة الإخلاص في نفوس المؤمنين لتتحدى صحاري الإنتظار القاحلة، ووحشة الديجور في كبب الظلام.
فلتضج الدنيا بآهات الغياب وليخسأ الناكرون ما انفكوا صاخبين، ولتهاجر الطيور إذا ما سئمت الإنتظار، أما أنا أتلمس دفء حضورك الأثيري يا سيدي في ابتهالات الصلاة، وأنين الندم؛
وفي بساتين التمر التي مدت فيها النخيل الباسقة بأعناقها لتترقب عن بعد القادمين..... ثم تتمتم في أذني إنتظري هنيهة، سوف يعود..
اضافةتعليق
التعليقات