من منا لا يود أن يرتقي مدارج الكمال الروحي؟ ومن منا لا يرغب باكتساب القرب والوصول لساحة الطهر والنقاء والصفاء؟
الكثير من الناس يود ذلك ويرغب به، ولكن كيف يحصن الانسان نفسه من الوقوع في مصائد الآثام ومزالق الردى والهلاك؟
ان الانسان يبقى عرضة للتجاذبات والمنعطفات الخطيرة ما لم يحصن نفسه بالرقابة.. لأن الرقابة هي الحصن الواقي والسياج الذي يمنعه من الانحراف أو الانزلاق نحو مرديات الهوى. ولأن طبيعة النفس البشرية ميالة بطبعها الى اللهو واللعب، ومملوءة بالغفلة والسهو، فلابد هنا من إعمال الرقابة اتجاهها كي لا تحوم حول الشبهات ولا تسترسل في هواها الذي جبلت عليه.
ولعل في قصة هذا الغلام عبرة نتعلم منها الكثير، يقال دخل غلام بستاناً يتنزه فيه، وكانت أشجار البستان مثقلة بأنواع الفواكه اللذيذة وأشكال الثمار الناضجة الشهية، فلم تمتد يده لتقطف من فواكهها وثمارها شيئاً، بل كان يمتع ناظريه بخضرتها اليانعة وألوانها الزاهية. في هذه الأثناء، كان البستاني يراقب الغلام مختبئاً خلف شجرة، وبعد أن أنهى الغلام جولته في البستان، وهمّ أن يغادر، جاءه البستاني وألقى عليه التحية مشفوعة بابتسامة عذبة، وقال له: لقد رأيت شيئاً عجبا!
فقال الغلام: فعلاً، في البستان أشياء عجيبة! قال البستاني: لا، لا أقصد البستان، بل أعني أني كنت أراقبكَ منذ أن دخلتَ البستان، فتعجبت كيف لم تمتد يدك لتقطف تفاحة أو رمانة أو خوخة، أو أي فاكهة أخرى أعجبتك، ولم يكن هناك أحد في البستان؟! قال الغلام: علمتني أمي منذ صغري أنني لا أرتكب القبيح حتى إذا لم أرَ أحداً، طالما أن نفسي معي تراقبني، فصرت أكره ارتكاب القبيح أمامها! فسرّ البستاني من جواب الغلام المؤدب المهذب الذكي، وطلب إليه أن يجلس على بساطٍ مفروش على حافة ساقية، ثم قطف له من الفاكهة تشكيلة جميلة، وأتاه بها في صحنٍ وفوقها بعض الورود. قال البستاني للغلام: تفضل كُل هنيئاً مريئاً. قال الغلام: أرأيت! احترمْتُ نفسي فاحتَرَمتني!.
ومن هذه القصة نستخلص بعض العبر والدروس التي ستكون لنا وقوداً نستعين بها لرحلة التكامل والصعود.
ان الرقابة الذاتية أفضل أنواع الرقابات قاطبة لأنها تشعل اشارة الممنوع في داخلنا حتى إذا لم يكن هناك شرطي مرور أو اشارة ضوئية خارجية. وإذا أضفنا الى رقابة الذات رقابة الله سبحانه وتعالى ورقابة الملكين الكاتبين (كاتب الحسنات وكاتب السيئات) فإن هذه الرقابات الأربع ستضع سياجاً واقياً يحمينا من الوقوع في المهالك والقبائح والمحرمات.
ومن أهم أسس النجاح أن ينجح الانسان بتقييم نفسه ويعرف أين يضعها ويجعل الله على نفسه رقيباً.. وبالرقابة الذاتية يستطيع المرء من تقويم مسيرة السلوك وتقوية الوازع الأخلاقي الذي يمنعه من النكوص والسقوط.
ومن هنا ندرك جيداً الارتباط الوثيق بين الرقابة الذاتية والمحاسبة.. لأن الأولى تدعو الى الثانية.. وكلما شدد الانسان رقابته على نفسه كلما كان أشد محاسبة لها. ذلك لأن النفس هي التي تجرّ الإنسان إلى أحد الطرفين، الحُسن أو القبح، ملامة الذات أو أمرها بالسوء، الرضى أوالسخط ، وهكذا. وكلما هذّب الإنسان نفسه كلما صفت ونقت وجرّته تالياً إلى الخير والصلاح، وهنا يتضح أهمية أن يقوم المرء بمراقبة النفس والسعي الى إصلاحها وتهذيبها. لذا جاء في الحديث الشريف: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا) فكيف يجري محاسبتها ما لم يكن هناك رقابة تسبقها؟!
وعلينا أن نعلم بأن محاسبة النفس تكون في جميع ما له تبعات أخروية أو دنيوية من دين أو رأي أو أدب..
ويستفاد من مجمل آيات القرآن الكريم ان كل أعمالنا حتى الأنفاس والأفكار والنوايا محفوظة في صحيفة أعمالنا وتبقى ليوم القيامة لتكون ماثلة أمامنا وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا الغفلة عن عواقب هذه الأعمال وعدم المبادرة الى مراقبة أنفسنا والانتباه الى أقوالنا وأعمالنا ونوايانا؟ فالحساب في يوم الجزاء حساب دقيق حيث لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا ويحاسب عليها، يقول الله تعالى: ((وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)).
وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنه أهون لحسابك غدا، وزن نفسك قبل أن توزن وتجهز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية).
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: (إن الحازم من شغل نفسه فأصلحها وحبسها عن أهوائها ولذاتها فملكها وإن للعاقل بنفسه عن الدنيا وما فيها وأهلها شغلا).
اضافةتعليق
التعليقات