كثرت لحظات تيهنا في هذه الحياة، إن الآباء والأمهات اليوم مشغولين عنا لدرجة أنهم لم يعودوا يرونا حتى، انشغالهم بات قاتلاً صامتاً، كليلةٍ شتوية قارصة البرودة، هذا الشرود في الهواتف وفي هذه العوالم الأفتراضية شتت أرواحنا، لم نعد نلتقي وإن التقينا فإن الكلمات تكون على عجلة وسريعة وكأنها مقطع من تلك المقاطع السريعة التي اعتادوا أن تصخب بها هواتفهم، نحن الشباب نفتقد لتلك الجلسات الدافئة والحديث الدافيء الذي يرويه الكبار.
ذلك الحديث المليء بتجارب الأيام ومواقفها، نحن بحاجة من يذكرنا دوماً أننا على الطريق السوي، وأننا مهما حدث وعصف بنا لا يجب أن ننحرف ولو قليلا، بحاجة إلى نصيحتهم في كل حين، بأن ضمائرنا لا يجب أن ترضى وترضخ لكل شي، وأن عقولنا يجب أن تُصقل بالكتب والقراءة والمطالعة مثلها مثل أرواحنا التي يجب أن تُصقل بالصلاة والدعاء والاستغفار والتأمل، نحن في وقتنا هذا حقا وحيدين لا أحد يسمعنا أو يرانا، إننا اليوم نفتقد العائلة، نفتقد كبير السن وحكمته، نفتقد هدوئه وابتسامته، نفتقد تجاربه ونصائحه، بات كبير السن كثير الصراخ والتذمر في فراغه، صامتاً صاخباً بمقاطع الفيديو على هاتفه عند انشغاله.
أحياناً نتيه وتأخذنا الحياة إلى أماكن مجهولة لم تطأها قدمنا يوماً، نرتعب ونخاف من كل بداية ومع كل خطوة جديدة في هذه الحياة، فنكون بحاجة أن يربت أحدهم على كتفنا ويقول: أكمل سيرك، ستواجهك المصاعب لكن أكمل، ممكن أن تتعثر لكن انهض، مادمت ترى خيرك والآخرين في أمرك هذا فأكمل.
اليوم بات الشباب في عالم، الأطفال في عالم، وكبار السن في عالم آخر، باتت قلوبنا شتى لا يجمعها أمر وكأن خصومتها أبدية، نحن بحاجة إلى الرجوع، بحاجة إلى حنان الأبوين ورعايتهما، بحاجة إلى الكلمة، إلى الثقة، بحاجة أن يخبرونا دائمًا أن لا نخاف فالله موجود معنا مع كل طرفة عين، لنكمل بدورنا نحن تلك الرحلة، رحلتنا جميعا في هذه الحياة، الآباء والأمهات وقودنا في هذه الحياة.
إنهم صُناع ماضينا، ونحن صُناع ماضي أطفالنا هكذا قرأت في إحدى المرات وكم علقت هذه العبارة في ذاكرتي واستقرت، أننا حقا في حاضرنا هذا الذي نعيشه صُناع ماضي أطفالنا مثلما صنع أبوينا ماضينا وها نحن نعيشه بأفكارنا وما صنعناه من إنجازات، وكم أن للماضي دور في تنشئة الإنسان وأفكاره.
لكن للأسف قليل من يكترث أن للماضي دور مهم في حياة الانسان، أننا متصلون بماضينا وحاضرنا، متصلون بمن سبقنا وبمن هم معنا الآن، إن الحياة لحن من أغنية واحدة، إلا أنها كثُرت الألحان وبات كل واحد فينا يعزف لحنه الخاص غير آبه بأحد ٍمن حوله، فعلت أصوات لحن بعض وقصُرت أصوات لحن الآخر وبات الكل نشازاً وغير مريح، بات صاخباً، وبالرغم من كل الصخب المحيط بنا، الآن إن نفوسنا ملؤها الفراغ، إنها تفتقد اللحن الجميل، متعبة من كثرة الاصطدامات ومحاولة اثبات الذات سواء داخل المنزل أو خارجه، ذلك الحب المشروط هو ما أتعبنا، الحب المشروط بإمكانيات ومميزات لابد أن تتواجد في الفرد وإلا فلا أحد يكترث لوجوده.
اليوم بات بعض الآباء والأمهات يضعون موازين حب الأبناء بالقبول في الكلية أو المدرسة التي يرغبون أو العمل الذي يريدون أو حتى الهواية التي يحبون!، وغادرتهم فكرة أن حبهم المشروط يعود عليهم بحب مشروط أيضا، ذلك الفرد الذي تربى بهكذا طرق سيرى أن الحياة مرهونة بشروط ولا مجال للحب غير المشروط فيها، تراه أنانياً، لا يُحب خيرا لأحد، وكأن نعم الله ستنتهي إن شاركها مع أحد، لا يرى روعة أن تحب الجميع هكذا بلا أي حواجز أو ألقاب، لا يرى روعة أن يُحب الجميع في الله ولله، لا أنوي الإساءة في حديثي هذا للأهل بقدر ما أنوي أن ننتبه لهكذا نقطة في تربية أطفالنا وأبنائنا، الأبوين هم مرآة أولادهم فكلما أعطوهم من الثقة والتربية وحسن التصرف والحب كلما رأى الأولاد هذا منعكساً في حياتهم وتعاملهم مع الآخرين.
اليوم نحن بحاجة إلى خفض صوت الهاتف لنسمع ما يقول الأبناء، نحن بحاجة إلى إعلان الهدوء قليلاً لنصغي، اليوم نحن بأمس الحاجة إلى لملمة شتات الشباب والأطفال الذي فرقه عالم الهواتف الذكية والتواصل الاجتماعي، عالم الصخب والعجلة، نحن بحاجة إلى الهدوء والوقوف ومن ثم العودة من جديد، العودة لجلب كل ما سقط منا في رحلتنا العجولة هذه، العودة لنصغي، لنتحدث، لنسمع، أو حتى لنرى، طريق العودة مفتوح للجميع، طريق العودة يكون بالاستخدام السليم لهذه العوالم لأنها نعمة حقاً.
كل ما علينا فعله هو أن نرفع رؤوسنا من الهاتف ونبدأ بالترتيب من جديد.
اضافةتعليق
التعليقات