النجاح والتفوق حلم الجميع ولكن كيفية الوصول إليه تشكل فارقا كبيراً في تقييم درجات النجاح، هناك من يدوس على أعناق الآخرين ليرتقي نحو القمة وهناك من يضع أحجار تعثره وفشله وتجاربه ويصعد نحو القمة وشتان بين هذا وذاك.
هناك أمور كثيرة تدفع المرء نحو النجاح وحياة راقية منها "الشكر" ربما كثير من الناس نسى هذا الموضوع لذلك أصبح عالمنا اليوم أناني جداً فباتت الخدمات التي تقدم الينا فرض على أصحابها وليس فضل علينا، في الحقيقة يحتاج الانسان ان يجلس بين فينة وأخرى ليفكر إلى تعدد نعمه ليرى كم هو قاصر في هذا المجال.
شُّكْرُ النِّعْمَةُ من أجل وأطيب الصفات التي يجب أن يتصف بها الانسان، وهي من مكارم الأخلاق، الشكر هو المجازاة على الإحسان، والثناء الجميل على من يقدم الخير والإحسان. لذلك نجد هناك آيات وروايات وأدعية تحثنا على الشكر وتقدير مالدينا من نعم كما يقول مولانا زين العابدين في مناجاة الشاكرين (شرح الصحيفة السجادية للسيد محمد حسين الحسيني ص٢٤٤):
(إلهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إحْصآءِ ثَنآئِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوآئِدِكَ، وَأَعْيانِي عَنْ نَشْرِ عوارِفِكَ تَوالِي أَيادِيك).
الشكر لغة الثناء على المنعم اعترافا باحسانه، قال عليه السلام: واجعل شكري لك على ما زويت عني أوفر من شكري إياك على ما خولتني فإن الإحسان كما يكون بالتخويل أي العطاء.
والشكر يتحقق بوجوه :
الأول: الشكر باللسان بالثناء على المنعم بالجميل الاختياري.
الثاني: الشكر بالأركان بعمل الطاعات الشخصية.
الثالث: الشكر بالجنان وهو الإعتقاد بلزوم أداء فريضة الشكر ويحصل من ذلك كله حالة الخضوع في الطاعة والسرور في القلب وظهور اثار نعمة الله على الانسان واستفتح الدعاء بقصور الشكر بالوجوه الثلاثة لكثرة موجباتها فإن كثرتها يعوق الإنسان عن أداء واجب الشكر.
وقد أشار عليه السلام إلى المعوقات التالية :
١-الذهول وهو غياب الرشد عن اقامة واجب الشكر بسبب تتابع طَوْل الله سبحانه أي فضله الوارف.
٢-العجز عن إحصاء الثناء على فضل الله تعالى الفائض بما يخرج عن حد الإحصاء.
٣-الاشتغال عن واجب الذكر لمحامده تعالى بسبب عوائده أي معروفه المترادفة أي المتعاقبة.
٤-العيّ وهو القصور لعدم التمكن من نشر العارفة وهي الخير الذي وهبه الله للإنسان بأداء حق السائل والمحروم وذلك بسبب توالي أيادي الله بالإحسان فإن توالي الإحسان من الله قد يسلب من الانسان الوقت الكافي للشكر ونشر ذلك بين الآخرين.
حال الشكر:
(وهذا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْمآءِ، وَقابَلَها بِالتَّقْصِيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالإهْمالِ وَالتَّضْيِيعِ، وَأَنْتَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، الَّذِي لا يُخَيِّبُ قاصِدِيهِ، وَلا يَطْرُدُ عَنْ فِنآئِهِ آمِلِيهِ، بِساحَتِكَ تَحُطُّ رِحالُ الرَّاجِينَ، وَبِعَرْصَتِكَ تَقِفُ آمالُ الْمُسْتَرْفِدِينَ، فَلا تُقابِلْ آمالَنا بِالتَّخْيِيبِ وَالإياسِ، وَلا تُلْبِسْنا سِرْبالَ الْقُنُوطِ وَالإِبْلاسِ).
والشاكر المغمور بموجبات الشكر يجد نفسه عاجزاً عن أداء واجب الشكر ويكشف عن حاله الموقف الذي يقفه في المقامات التالية:
١-مقام الاعتراف بسبوغ النعماء أي استمرارها مع التقصير بواجب الشكر.
٢-مقام الشهادة على النفس بالإهمال للمسوولية الملقاة على عاتقه.
٣-مقام الشهادة بالتضييع لحقوق النفس المؤثر في تضييع الحقوق الإجتماعية والمقامات الثلاث تقتضي المؤاخذة على التقصير بالواجب والاهمال للمسؤولية والتضييع للحقوق ولا مخرج من هذه المؤاخذات إلا بالصفات الإلهية للعفو وسرد منها الرأفة والرحمة والبر والكرم وتستلزم هذه الصفات:
١-عدم الخيبة مما يفقده المعترف من العفو.
٢-تحقيق الأمل بأن لا يطرد المعترف من فناء الله سبحانه حتى تشمله الرحمة.
٣-تحقيق الرجاء فإن كل راج ينتهي في رحلة الرجاء من الله بالفوز بما رجاه من الله تعالى.
٤-الرفد أي العطاء فإن العطاء بلا عوض لايكون إلا من الله سبحانه الذي تنتهي الآمال اليه تعالى.
٥-عدم الخيبة واليأس فإن العفو من صفات الذات المقدسة والله لا يخيب من رجاه وقد قال تعالى: لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
٦-عدم القنوط امتثالا لأمر الله في قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
والابلاس: الحيرة الموجب للحزن والسربال القميص الذي يلبس فيشمل الجسم كله، فإن صفات الذات المقدسة تقتضي العفو والرحمة لمن عن أداء واجب الشكر.
موجب الشكر
(إلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي، وَتَضَاءَلَ فِي جَنْبِ إكْرَامِكَ إيَّايَ ثَنآئِي وَنَشْرِي، جَلَّلَتْنِي نِعَمُكَ مِنْ أَنْوَارِ الإِيْمانِ حُلَلاً، وَضَرَبَتْ عَلَيَّ لَطآئِفُ بِرِّكَ مِنَ الْعِزِّ كِلَلاً، وَقَلَّدْتَنِي مِنْكَ قَلائِدَ لا تُحَلُّ، وَطَوَّقْتَنِي أَطْوَاقَاً لا تُفَلُّ، فَآلاؤُكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْمآؤُكَ كَثِيرَةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْرَاكِها فَضْلاً عَنِ اسْتِقْصآئِها، فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْر، فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الْحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الْحَمْدُ).
يتضمن هذا المقطع الاشارة إلى كثرة موجبات الشكر وعظمها بحيث لا يفي الشكر بها مهما حاول الانسان ذلك فان النسبة غير متعادلة لعظمة الآلاء أي النعماء من جانب وصغر الشكر بالنسبة اليها من جانب اخر وكثرة الكرم جانب الله وضآلة الثناء باللسان والعمل بالأركان بنشر عوارف الله وعطاياه في المجتمع من جانب الانسان وقد وصف هذه النسبة غير المتعادلة في الجمل التالية:
١-تجلل النعم من انوار الايمان على الانسان كالغطاء الذي يشتمل على الجسم كله وذلك في الحياة مع وضوح الرؤية.
٢-الضرب على الانسان بلطائف البر والعز كالكلّة والمراد: الستر الرقيق من العقل والارادة.
٣- قلّدت المنن الانسان قلائد في عنقه لا تحل؛ لأنها ملازمة للانسان في جميع أحواله ولولاها لما أمكن للانسان الحياة.
٤-طوّقت المنن الانسان طوقا والطوق القيد المستدير الذي يحيط بالرقبة ولا يمكن الانفلات منه.
٥-يضعف اللسان عن إحصاء الآلاء لأنها جمّة أي كثيرة.
٦-ويقصر الفهم عن ادراك النعماء لكثرتها فإن الإدراك لحقيقة الشيء يفتقر إلى التركيز عليه بدراسة مايتعلق به من آثار وخواص وذلك يستلزم وقتاً كثيراً ولا يسع إلا البعض دون الكل.
فلايمكن إدراك النعماء بسبب كثرتها كما لا يمكن استقصائها أيضا لنفس السبب فإن ذلك انما يمكن في الشيء المحدود وكثرتها يخرجها عن حدود القدرة على ادراك حقيقتها كما يخرجها عن إمكان إستقصاء عددها.
ونتيجة هذه النسبة غير المتعادلة بين موجبات الشكر وقدرة الإنسان على الشكر يظهر عجز الإنسان عن أداء واجب الشكر فلا يمكن تحصيل الشكر على حقيقته لأن الشكر باللسان مثلا انما هو بسبب القدرة على الشكر وهذه القدرة على الشكر تفتقر الى شكر اخر والشكر على هذه القدرة نعمة أخرى تفتقر إلى شكر ثالث وهكذا يستمر الى مالانهاية له بالتسلسل.
تمام النعم:
(إلهِي فَكَما غَذَّيْتَنا بِلُطْفِكَ، وَرَبَّيْتَنا بِصُنْعِكَ، فَتَمِّمْ عَلَيْنَا سَوابِـغَ النِّعَمِ، وَادْفَعْ عَنَّا مَكارِهَ النِّقَمِ، وَآتِنا مِنْ حُظُوظِ الدَّارَيْنِ أَرْفَعَهَا وَأَجَلَّها عاجِلاً وَآجِلاً، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلى حُسْنِ بَلاَئِكَ وَسُبُوغِ نَعْمآئِكَ حَمْدَاً يُوافِقُ رِضاكَ، وَيَمْتَرِي الْعَظِيمَ مِنْ بِرِّكَ وَنَداكَ، يا عَظِيمُ يا كَرِيمُ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ).
وختم الدعاء بطلب تمام النعمة ولوازمه الموجبة للشكر فإن موجبات الشكر تبدأ بالخلق في احسن تقويم ثم التغذية في الصغر سواء جسمياً بأنواع الرزق أو روحياً بالعقل والسلامة والتربية بما صنعه سبحانه أي أحكم عمله فيما خلقه في العالم من النظام المؤثر في حياة الانسان وتشريع الأحكام التي ينتظم بها سلوك الانسان في النفس وفي الاسرة والمجتمع وحيث ان موجبات الشكر في الحياة لا تنتهي لمن تدبر فيها، ختم الدعاء بثلاثة أمور متلازمة هي:
١-تمام النعم السابغة أي الواسعة وتمامها استمرارها وهذا أوجب للشكر.
٢-دفع المكروه من النقم والنقمة هي المكافئة بالعقوبة وهو أوجب للشكر من رفعها.
٣-التكرّم بالحظ وهو النصيب من الخير والسعادة في الحياة فإن رفعة الحظوظ وجلالها أي كثرتها اتمام لها سواءً في الدنيا عاجلا أو في الآخرة آجلا ولا شيء يعادل هذه النعم الموجوبة للشكر سوى الحمد لله على حسن البلاء أي الامتحان وسبوغ النعماء المتكثرة أي شموليتها وكثرتها وطول أمدها بالاستمرار بالحمد حمداً يوافق رضا الله سبحانه باستمراء بره أي استمراره بكثرة، والندى هو السخاء بالفضل فإن الاستمرار والكثرة في السخاء في النعم السابغة الواسعة إتمام لها وهي توجب الشكر.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: إن النعمة موصولة بالشكر والشكر متعلق بالمزيد. ولن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد فالنجاح والتفوق لا يأتي فجأة بل أنت من تهيء الأرضية للوصول إليه، فعندما تشكر ربك ينعم عليك بالمزيد وعندما تشكر أصحابك سيقفون بجانبك ويساعدوك على الدوام، ففي طريقك نحو القمة لا تنسى ربك الذي أنعم عليك ومن مدّ يد العون لمساعدتك.. جميل ما خط يراع الشاعر عندما قال :
واذا الفتى ظفرت يداه بنعمة
فدوامها بدوام شكر المنعم.
اضافةتعليق
التعليقات