في زمنٍ اشتدت فيه رياح الفتن الفكرية، وتكاثرت فيه التيارات المنحرفة، برز الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) نورًا يبدّد ظلمات الجهل، وحصنًا منيعًا يحمي العقيدة من عبث التأويلات وتحريف المبطلين، فقد وقف (عليه السلام) في وجه الانحرافات التي كانت تتسلل إلى عقول الناس، فلم يداهن أهل الباطل، ولم يسكت عن الانحراف، بل تصدى لها بالحجة والبرهان، واستعمل في ذلك علمه الواسع، وحكمته الراسخة، وشجاعته الفكرية التي لا تعرف المجاملة على حساب الدين.
كان منهجه (عليه السلام) في المواجهة يبدأ بهدم الأسس التي تقوم عليها الأفكار الضالة، فيسلبها شرعيتها من أصلها، ويقطع الصلة بين أصحابها وبين عموم الناس، حتى لا تجد لها موطئ قدم في الأمة. فعندما ظهر المشبّهة الذين شبّهوا الله بخلقه، رد عليهم قائلًا: "إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ واويةً فجهلوك، وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك، وإنّي بريءٌ يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء"، بهذا الرد اختصر الإمام جوهر التوحيد، حيث لا تشبيه ولا تجسيم، بل تنزيه محض يليق بجلال الخالق.
وعندما تصدّى للجبرية والمفوّضة، بيّن انحرافهم قائلاً: "من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام، فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك" وكان صريحًا في وصم هذه الأهواء بما تستحقه من حكم شرعي وعقائدي لا لبس فيه.
ولم يكتف عليه السلام بالرد على الفكر فحسب، بل واجه حملته والداعين إليه، فنهى عن مجالسة الغلاة والمجبرة والمفوّضة، وقال عنهم: "الغلاة كفّار، والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو وآكلهم، أو شاربهم، أو وآصلهم، أو زوّجهم، أو تزوّج منهم، أو آمنهم، أو ائتمنهم على أمانة، أو صدّق حديثهم، أو أعانهم بشطر كلمة، خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وولايتنا أهل البيت"، وقد شدد على التحذير من ذبائحهم وشهاداتهم وصلاتهم وزكواتهم، فقال: "من زعم أن الله تعالى يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا ورائه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً".
وعند مواجهته لروايات موضوعة تُنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قام عليه السلام ببيان الحق ونقض الزيف، كما في رده على من قال: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة، فقال: "لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله كذلك، وإنما قال: إن الله تعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟... حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)".
وكان الإمام (عليه السلام) شديدًا في مواجهة الواقفة، الذين أنكروا وفاة والده الإمام الكاظم عليه السلام طمعًا في الأموال، فقال عنهم: "لعنهم الله ما أشدّ كذبهم"، وحين سُئل عن حكمهم، قال: "الواقف حائد عن الحق ومقيم على سيئة، إن مات بها كانت جهنم مأواه وبئس المصير". ولم يتهاون في تحذير أصحابه من مجالستهم، فقال لمحمد بن عاصم: "بلغني أنك تجالس الواقفة؟"، فقال: نعم، وأنا مخالف لهم. فقال عليه السلام: "لا تجالسهم". بل وأمر بمنع الزكاة عنهم بقوله: "لا تعطهم فإنهم كفار مشركون زنادقة".
لكن الإمام عليه السلام لم يكتف بالمجابهة، بل انطلق في نشر الفكر السليم، فكان يفسّر آيات التوحيد، ويضع قواعد العقيدة بلغة جلية، وكان يقول في وصف الله تعالى: "حسبنا شهادة أن لا إله إلا الله، أحداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، قيّوماً، سميعاً، بصيراً، قوياً، قائماً، باقياً، نوراً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنياً لا يحتاج، عدلاً لا يجور، خلق كل شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضد، ولا ند، ولا كفوء"، وكان يصنّف الناس في التوحيد إلى ثلاثة مذاهب، قائلاً: "للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه. فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز، لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة: إثبات بلا تشبيه".
وسئل عليه السلام: أيكلّف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال: "هو أعدل من ذلك". قيل له: فيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ فقال: "هم أعجز من ذلك".
بهذا النهج المتوازن، استطاع الإمام الرضا (عليه السلام) أن يطوّق الانحرافات الفكرية، ويقضي على بذور الضلال في مهدها، ويزرع في القلوب بذور العقيدة الصحيحة، ليبقى الدين محفوظًا والعقيدة نقيّة، والفكر منيرًا يستمد نوره من آل بيت النبوة.
اضافةتعليق
التعليقات