آمن المسلمون بعقيدة التوحيد وتلقوها بوضوح وبساطة عن نبي الموحدين وداعية التوحيد محمد (صلى الله عليه وآله) وفهموها عن كتاب الله الواضح المبين، بلا تفلسف، ولا تعقيد فهموا هذه العقيدة وما يرتبط بها من إيمان بالنبوة والوحي والآخرة والجنة والنار، وصفات الله سبحانه وعلاقته بأفعال العباد والمكلفين وبالخلق والرزق والعالم... الخ، فهماً قرآنياً، تلقوه عن رسول الله واستوعبوه.
وعلى مر الأيام دخلت الفلسفة والمنطق، ونشأ الجدل، وكثرت الآراء والفرق الكلامية والاعتقادية فيما يخص صفات الله سبحانه وأفعال العباد وأحوال الآخرة، وتفسير المسائل الاعتقادية، فنسب بعضهم التجسيم لله سبحانه، وقال آخرون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا على حمار أبيض وقال البعض الآخر بالجبر والتفويض، وأنكرت فرقة عذاب القبر، وأنكرت فرق أخرى المعاد الجسماني، ونادى آخرون بالتصوف والرهبنة واعتزال الدنيا ... الخ.
وقد تصدى أئمة أهل البيت لهذا الانحراف ولكل التيارات المنحرفة، هم وتلامذتهم، وخصوصاً في عهد الباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام). ووقفوا بوجهها وردوها بالدليل والبيئة والمنهج العامي الرصين.
وها نحن نذكر أمثلة من معارف الامام في التوحيد والربوبية: عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني قال: قلت لأبي ابراهيم - موسى بن جعفر (عليه السلام): إن هشام بن الحكم زعم أن الله تعالى جسم ليس كمثله شيء عالم، سمیع، بصیر، قادر متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شيء منها مخلوقاً.
فقال: (قاتله الله، أما علم أن الجسم محدود؟ أو الكلام غير المتكلم؟ معاذ الله، وأتبرأ إلى الله من هذا القول . لاجسم ولا صورة، ولا تحديد، وكل شيء سواه مخلوق، وإنما تكون الأشياء بإرادته، ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان. وحينما ذكر عنده قوم زعموا أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال: (إن الله لا ينزل، ولا يحتاج أن ينزل، إنما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه بعيد، ولا يقرب منه قريب ولم يحتج الى شيء، بل يحتاج إليه كل شيء، وهو ذو الطول لا إله الا هو العزيز الحكيم.
أما قول الواصفين أنه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة. وكل متحرك يحتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون فقد هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرک، زوال و استنزال، أو نهوض أو قعود، فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهم المتوهمين). ٤٤
ورد على الذين فسروا قوله تعالى «الرحمن على العرش استوى بأنه جلوس على عرش يشبه الكرسي. فرد على ذلك وأوضح: (إن معنى «الرحمن على العرش استوى هو : استولى على مادق وجل. أي أن الهيمنة متحققة له على الوجود بأسره، فالاستواء هنا يساوي وصفه تعالى بذى الطول المهيمن مع قرب وحضور لا يبعد ولا يغيب).
وناقشه أحد معاصريه في تفسير قوله تعالى دنا فتدلى فکان قاب قوسين أو أدنى». وكان هذا الرجل يقول: أرى ها هنا خروجاً من حجب، وتدلياً إلى الأرض، وأرى محمداً (ص) رأى ربه بقلبه، ونسب إلى بصره فكيف هذا؟
فقال له الامام: دنا فتدلى، فانه لم يزل عن موضع، ولم يتدل ببدن).
فقال له الرجل: أصفه بما وصف به نفسه حيث يقول «دنا فتدلى» فلم يتدل عن مجلسه الا وقد زال عنه، ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه. فقال الامام: إن هذه لغة في قريش، اذا أراد رجل منهم أن يقول : قد سمعت. يقول: قد تدليت، وإنما التدلي الفهم. وفي موضع آخر يوضح العلاقة الحقيقية بين إرادة الله وبين إرادة الانسان، ويفسر كيفية حدوث السلوك البشري، خيره وشره ويؤكد حرية الارادة، وقدرة الانسان على الاختيار في الفعل والترك وأن الله سبحانه لم يصادر إرادة الانسان، وأن هذا الاختيار عند الانسان لا يعني أن الله غير قادر على منع العباد من فعل الشر، أو اجبارهم على فعل الخير، ولكن ليبلوهم ويختبرهم، وفي ذلك قال (ع):
(إن الله خلق الخلق، فعلم ما هم إليه صائرون، فأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين الا باذنه، وماجبر الله أحداً من خلقه على معصيته، بل اختبرهم بالبلوى، وكما قال: "ليبلوكُمْ أَيْكُمْ أحسن عملاً").
وبهذا البيان العقائدي يقدم الامام المرتكزات الأساسية لتفسير السلوك ويثبت معالم الفلسفة السلوكية للحياة من خلال فهم توحيدي وإيضاح للعلاقة بين إرادة الله وقدرته وعلمه، وبين إرادة الانسان وقدرته، ويربط بين القدرة على الاختيار، وبين الالتزام والمسؤولية - الجزاء - ويؤكد علاقة هذا الاختيار البشري ودوره في الكشف عن هوية الانسان وحقيقته الباطنة سلوكاً ومواقف، وتعبيره عن محتوى ذاته، بقوله (ع): (ولكن ليبلوهم ويختبرهم).
ج - الامام يثبت المصادر الأساسية للفكر والتشريع:
وكما قرأنا بعضا من معارفه وتوجيهاته في علم التوحيد والعقيدة وتفسير السلوك الانساني، نقرأ في موضع آخر من أفق معارفه أفكاراً ومفاهيم وقواعد أساسية لضبط موازين الفقه والاستنباط والفكر، أوضحها وثبتها الامام في رسالة كتبها بناء على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد، إذ قال له: بحق آبائك لما اختصرت كلمات جامعة لما تجاريناه.
فقال (ع): نعم. وأوتي بدواة وقرطاس فكتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم جميع أمور الأديان أربعة، لا اختلاف فيه، وهو اجماع الأمة على الضرورة التي يضطرون إليها، الأخبار المجمع عليها، وهي الغاية المعروض عليها كل شبهة، والمستنبط منها كل حادثة وهو اجماع الامة. وأمر يحتمل الشك والانكار، فسبيله استيضاح أهليه لمنتحليه بحجة من كتاب الله مجمع على تأويلها، وسنة مجمع عليها لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله ولا يسع خاصة الأمة وعامتها الشك فيه والانكار له، وهذا الأمران من أمر التوحيد فما دونه وإرش الخدش فما فوقه. فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين، فما ثبت لک برهانه اصطفيته، وما غمض عليك صوابه نفيته. فمن أورد واحدة من هذه الثلاث فهي الحجة البالغة التي بينها الله في قوله لنبيه: «قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين». يبلغ الحجة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله، كما يعلمه العالم بعلمه، لأن الله عدل لا يجور، يحتج على خلقه بما يعلمون ويدعوهم إلى ما يعرفون لا إلى ما يجهلون وينكرون(.
وهكذا يثبت الامام مصادر العقيدة والتشريع ليحفظ العقل والتفكير والسلوك من خطر الانحراف والانزلاق، فيحددها في القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة، ثم يأتي دور القياس المستند إلى الكتاب والسنة، أي القياس الذي يمارس فيه الفقيه والباحث دور تطبيق الكليات التشريعية الثابتة في الكتاب والسنة على جزئياتها أو يرد الفروع إلى أصولها.
والامام كان يحدد نوع القياس صيانة للتفكير والاستنباط الفقهي والعقائدي من خطر الخطأ المنهجي، وعدم الاستفادة من الكتاب والسنة استفادة علمية مستقيمة مع ما يحتج به هذان المصدران، لذلك نراه يدعو إلى توحيد الفهم والتفكير ومنهج التحصيل والاستنباط ليحفظ نقاء الشريعة وأصالتها من جهة، وإثراء الفكر والتشريع من جهة أخرى، فيقرر ضرورة جعل المفاهيم القرآنية المحددة التأويل والسنة الصحيحة الثابتة أساساً ومنطقاً لاستنباط الأفكار والمفاهيم والأحكام، كما جعل القياس الذي تدرك العقول العلمية الناضجة استقامته أداة وطريقة لاستنباط الأفكار والمفاهيم والأحكام من هذين المصدرين.
فلا التأويلات القرآنية المتعددة عند المفسرين، ولا الروايات والأخبار الواردة من كل راوية، ولا القياس الشكلي الظاهري الذي يوهم المستنبط بصحة استنباطه تصلح أن تكون أساساً للفهم العقائدي، أو الاستنباط التشريعي.
والامام بتحديده لمنابع الفكر والتشريع جعل القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة هما المعين والمنبع والرافد للفكر العقائدي والمدد التشريعي اللذين يستنبط منهما، أي يقاس عليهما القياس الذي يعني التفريع عليهما.
اضافةتعليق
التعليقات