حين نسمع كلمة الابتلاء، يتبادر إلى الأذهان العذاب والمحنة، غير أن المنظور القرآني يبدّد هذا التصور الضيق، فيكشف أن البلاء رحلة تطهيرٍ وتزكيةٍ للنفس، لا عقوبةً ولا انتقامًا. فالمؤمن يُبتلى لأن الله أراد أن يرفعه، لا أن يُهينه، ولأن الصبر بوابة الوصول إلى الكمال الروحي.
قال تعالى:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ».
إن هذه الآية لا تبشّر بالعذاب، بل بالبشرى التي تنبت من رحم الألم؛ فكل تجربةٍ مؤلمةٍ هي خطوة في طريق النضوج، وامتحان للإيمان الحقيقي الذي لا يُقاس باللسان، بل بالثبات ساعة الشدة.
البلاء ملازمٌ للإيمان
تُجمع الروايات على أن البلاء علامة الإيمان، وأن المؤمن لا يخلو من امتحانٍ يُظهر جوهره. قال الإمام الصادق (عليه السلام):
«إن أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدة، أما إن ذلك إلى مدةٍ قليلةٍ وعافيةٍ طويلة».
فالإيمان ليس زينةً ظاهرية، بل هو ميدان صراعٍ داخليٍّ بين قوى الخير والشر، بين نداء العقل وجاذبية الهوى. ومن هنا، يصبح البلاء منهجًا إلهيًا للتربية، يطهّر النفوس من التعلق الزائد بالدنيا، ويغرس في القلب التوازن بين الرضا والسعي.
وقد ورد أيضًا عنه (عليه السلام):
«ما كان ولا يكون مؤمنٌ إلا وله جارٌ يؤذيه، ولو أن مؤمنًا في جزيرةٍ من جزائر البحر لابتعث الله له من يؤذيه».
فالبلاء لا يُفارق المؤمن، لأنه جزء من تكوين شخصيته الإيمانية، التي لا تُصاغ إلا تحت الضغط، كما لا يُستخرج العطر إلا بعصر الزهر.
البلاء علامة رحمة لا غضب
كثيرون يظنون أن العافية دليل رضا، لكن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قلب المفهوم بقوله:
«إني لأكره للرجل أن يُعافى في الدنيا فلا يصيبه شيء من المصائب».
فالبلاء ليس نقيض الرحمة، بل وجهها الخفي؛ لأن الله إذا أحبّ عبده ابتلاه، ليرى صدقه وصبره. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«لا حاجةَ لله فيمَن ليس له في ماله وبدنه نصيب».
أي أن البلاء نصيب المؤمن من عناية الله، يذكّره بضعفه، ويمنعه من الغفلة، ويعيده إلى طريق النور كلما أغرته زينة الحياة.
الرضا وسط العاصفة
الرضا ليس سكونًا سلبيًا، بل هو قمة الإيمان، فحين يعصف الألم، يثبت قلب المؤمن على يقينه بأن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه. بهذا اليقين يعيش الطمأنينة وسط العاصفة، ويجد في البلاء معنى الرفعة لا السقوط.
يقول أحد العلماء: “البلاء يطرق باب المؤمن كما يطرق الربيع باب الأرض اليابسة، فيوقظ فيها الحياة”.
بيضة على وتد لا تنكسر
ومن الروايات الجميلة، أن النبي (صلى الله عليه وآله) رأى بيضة تقع على وتدٍ فلم تنكسر، فتعجب من دقة تدبير الله ولطفه.
تلك الصورة الرمزية تُلخّص فلسفة الابتلاء كلها؛ فالمؤمن قد يسقط، لكنه لا يتحطم، لأن يد الله تمسكه بلطفٍ لا يُرى. كما أن البيضة وقعت على الوتد بقدرٍ محسوبٍ، كذلك تقع المحن في حياة المؤمن بقدرٍ من الحكمة والعناية.
البلاء طريق الصفاء
إن فلسفة الابتلاء في الإسلام لا تدعو إلى الحزن، بل إلى الفهم. فكل ما يمرّ بالمؤمن من ألمٍ هو رسالة تهذيبٍ إلهية، تعلّمه الصبر، وتكشّف له عن عمق العلاقة بين العبد وربه.
فالمؤمن لا يقول: لماذا أنا؟ بل يقول: لِمَن أنا؟
وهو يعلم أن البلاء وإن أحرق الجسد، فإنه ينير الروح ويصنع القلوب العظيمة التي تعرف الله معرفة الصابرين الشاكرين.
فالابتلاء ليس عقوبة، بل علامة اختيار، ومنحة لا يدركها إلا من عرف الله حقّ المعرفة.




اضافةتعليق
التعليقات