إن النظرية مجزأة بالضرورة، بمعنى أننا بحاجة إلى أشكال نظرية مختلفة لتفسير ظواهر متباينة وبذلك في اتجاه لا يرضى عنه فإنني أتجاوز ما طرحه باسكر، ومن الجائز أنني أقوم بدفع أفكاره عنه، بيد أنني أعتقد استنادا إلى حجته، أنه يمكن القول إن تفسير خصائص البنى الاجتماعية وتفسير خصائص الفعل الإنساني، شكلان مختلفان من أشكال التفسير وما أريد عمله الآن هو أن أحدد أشكال التفسير المختلفة تلك، وما أفعله في واقع الأمر هو التوسع في فكرة طبيعة النظرية، لشرح بعض عمليات التفكير النظري.
تقوم النظرية في تحليلها للمجتمع بتحديد البنى الأساسية للعلاقات الاجتماعية، والخطوة الأولى نحو استخدام التشبيه والمجاز فالمجتمع يشبه شيئا آخر ونستطيع أن نجد سلسلة من الاستعارات والتشبيهات في جميع أنواع النظريات الاجتماعية: إذ يُشبه المجتمع بالكائن الحي في بعض الأحيان؛ وتستخدم الماركسية استعارة البناء لتوضيح تركيب المجتمع، فتصوره على أنه يتكون من بنية تحتية وفوقية؛ وتشبه التفاعلية الرمزية المجتمع بالمحادثة وتعتبر هذه المرحلة أشد المراحل اعتمادا على ملكة الخيال، لكنها مرحلة تزداد فيها الدقة وليس التشابه بين الظواهر هو المهم فقط بل الاختلاف أيضا، وكلما تطورت النظرية ظهرت مفاهيم قليلة الصلة بالاستعارة الأصلية.
والمسألة هنا لا تكمن في تحديد البنى الأساسية فحسب، بل يتعين على النظرية أن تقدم تفسيرات معينة، وهذا يتطلب أن يكون لديها مفهوم ما عن السبب، وهنا أجد أن الاستطراد حول فكرة السبب أمر ضروري، ذلك أننا في حياتنا اليومية نميل إلى استخدام المصطلح كما لو أنه لا إشكال فيه: فساقي المكسورة سببها حادث سيارة، وفشلي في الزواج سببه علاقتي مع سكرتيرتي، والتضخم سببه ارتفاع الأجور وهكذا كان كل تفسير من هذه التفسيرات يتضمن عملية مختلفة أشد الاختلاف، والاختلاف بين شكلي النظرية وهما نظريات البنى ونظريات الفعل، يكمن في شكل التفسير السببي الذي تقدمه كل منهما ولا يكفي للنظرية أن تقترح أن شيئا ما يسبب شيئا آخر، بل لابد لها أن تبين كيف تقع عملية السببية تلك فإذا ما دفعت مؤسسة تجارية أجورا أعلى مثلا فلابد لها من زيادة أسعار سلعها أو خدماتها لتغطية نفقاتها، الأمر الذي يساهم في حدوث التضخم.
ننتقل الآن إلى الشكل الآخر من التفسير وهو الذي يتناول تفسير أفعال الفاعلين، إن التفسير النظري للكيفية التي يقوم البشر بأفعالهم بها وأسباب تلك الأفعال، له بنية مختلفة تماما عن بنية العلاقات التي شرحناها للتو ومفهوما مختلفا عن السبب. لنتذكر أن الفاعلين يتأملون أفعالهم، ويتخذون القرارات وفق حسابات معينة ولهم مقاصد ونوايا وعندما نتكلم عن سبب في فعل ما في الحياة اليومية، فإننا نشير إلى عدد من الأمور.
العنصر المتميز فيها هو قصد الفاعل: الوضع الذي يريد أن تكون عليه الأمور، أو ماذا يريد تحقيقه والمصطلح الفني المستخدم هنا هو التفسير الغائي: إن النقطة النهائية، أي النتيجة، موجودة هنا سلفا على شكل الرغبة التي لابد أن توضع موضع التنفيذ بالممارسة والفعل السبب وهناك جدل يفسر بنتيجته النهائية، بمعنى أن النتيجة حول ما إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الصحيحة في تفسير الأفعال، أو ما إذا كان بالإمكان وضع بعض التفسيرات الأخرى على الطريقة المعهودة، وليس بالإمكان عرض كل الحجج في هذا المضمار.
في حال المجتمع، هناك تصور بنيوي ضمني لفكرة السبب، فالسبب لا يكمن في حادث بعينه أو شيء ما، بل يكمن في ترتيب معين للعلاقات ويمكن النظر إلى هذه العلاقات كَمُؤطر أو مُشكّل الآلية سببية ربما مثل زر الإضاءة تؤدي إذا حُرِّكت إلى نتائج معينة ويجب على النظرية أيضا أن تحدد نوعية الظروف التي تجعل هذه الآلية تعمل، أو إذا كانت هذه الآلية ستعمل بفضل العلاقات التي شكلت تلك الآلية وهذه فكرة صعبة على الفهم بصيغة مجردة.
المثال الأول يأتي من الموسيقى فإذا كان بمقدورنا أن ننسى مؤقتا تطورات مثل نظام النغمات القائم على اثنتي عشرة نغمة، فإن كل الموسيقى الشعبية وأغلب الموسيقى الكلاسيكية التي نسمعها في العالم الغربي، قائمة على عدد محدود من النغمات الموسيقية (النوتات) التي يمكن تعلمها بصورة مجردة بوقت قصير وكل الموسيقى مكونة من نفس النغمات الموسيقية وما يميز القطع الموسيقية ـ ما يسبب اختلاف ألحانها إن شئت هو ترتيب هذه النغمات والمثال الآخر هو أن معظمنا قد أقام علاقة حميمة ما فتئت أن فترت لفترة من الزمن أو انقطعت تماما، سواء أكانت تلك العلاقة مع أحد الوالدين أو مع صديق أو حبيب ونحن نستطيع أن نرى ظاهر هذه العلاقات: المجادلات المريرة، البرم الشديد، أو الشعور بالتعاسة والامتعاض أو حتى باليأس لكن بعد التروي، إن كان بمقدورنا ذلك، أو بعد مدة حينما تكون المشاعر قد هدأت، نستطيع أن نقر بأن ما حدث لم يكن خطأ أي منا، بل الخطأ يكمن في طبيعة العلاقة ذاتها، ربما كان مرجع ذلك عدم التكافؤ، أو بعض الأخطاء التي تكتنف علاقة الطرفين وقد تكون الآلية السببية الكامنة في العلاقة بين القلق الذي أشعر به حيال فحولتي وبين غضب زوجتي المكبوت هي التي ستؤدي، في ظروف معينة إلى جدل عنيف حول من يطعم القطة مثلا.
ننتقل الآن إلى الشكل الآخر من التفسير وهو الذي يتناول تفسير أفعال الفاعلين إن التفسير النظري للكيفية التي يقوم البشر بأفعالهم بها وأسباب تلك الأفعال، له بنية مختلفة تماما عن بنية العلاقات التي شرحناها للتو ومفهوما مختلفا عن السبب لنتذكر أن الفاعلين يتأملون أفعاله، ويتخذون القرارات وفق حسابات معينة ولهم مقاصد ونوايا وعندما نتكلم عن سبب فعل ما في الحياة اليومية، فإننا نشير إلى عدد من الأمور، العنصر المتميز فيها هو قصد الفاعل: الوضع الذي يريد أن تكون عليه الأمور، أو ماذا يريد تحقيقه والمصطلح الفني المستخدم هنا هو التفسير الغائي: إن النقطة النهائية، أي النتيجة، موجودة هنا سلفا على شكل الرغبة التي لابد أن توضع موضع التنفيذ بالممارسة والفعل هنا يفسر بنتيجته النهائية، بمعنى أن النتيجة هي السبب وهناك جدل واسع حول ما إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الصحيحة في تفسير الأفعال، أو ما إذا كان بالإمكان وضع بعض التفسيرات الأخرى على الطريقة المعهودة، وليس بالإمكان عرض كل الحجج في هذا المضمار.
إن التفسير الغائي على صعيد الممارسة متضمن في كل أشكال النظرية الاجتماعية التي تتحدث عن الفعل، وأظن أن الأمر لا يمكن أن يكون على خلاف ذلك وليس هذا الاختلاف الوحيد بين شكلي التفسير: فلفهم فعل ما فهما صحيحا يتعين فهم أشكال التفكير، فهم علاقات المعاني الكامنة في رؤوس الناس الذين ندرسهم أي أن هذا الفهم يتضمن عملية تأويل لا تلعب فيها أفكار من قبيل السببية البنائية أو الآلية السببية أي دور مطلقا فإذا ما أردنا أن نفهم نصا معينا في كتاب، على سبيل المثال، فإن هاتين الفكرتين - السببية البنائية والآلية السببية لا تفيداننا بشيء ويبقى السؤال القائل: كيف يمكننا معرفة ما إذا كانت نظرية ما صائبة أم خاطئة (وهو السؤال الأبستمولوجي المهم) قائما وليس هناك جواب قطعي عليه.
لكننا نستطيع التمييز بين تفسير أكثر كفاية أو أقل كفاية تقدمه هذه النظرية أو تلك ومثل هذا التمييز ليس عملا بسيطا، إذ إنه يتضمن مجموعة من النواحي التي تختلف من شكل نظري لآخر؛ بيد أننا يجب أن نتذكر دائما أننا نعيش في عالم لا يعطينا إجابات نهائية وقطعية فمثلما يتغير هذا العالم ويصبح عن ذي قبل، كذا تتغير النظرية التي هي وسيلتنا لفهم ذلك العالم مكانا مختلفا وهناك عدد من المعايير التي نستطيع على أساسها أن نحكم على تلك النظريات التي تتحدث عن المجتمع طرحت في سياق ما قلناه فالنظرية الأفضل هي تلك التي باستطاعتها أن تحدد بصورة تفصيلية أكبر، العمليات السببية الفاعلة والمواقف التي تعمل فيها تلك الآليات السببية ثم إنني أعتقد أن التماسك المنطقي مهم فالنظرية التي تناقض نفسها باستمرار يجب أن يُنظر إليها بعين الريبة أما من ناحية التجربة فإن النظرية لابد أن تقاس بناء على الأدلة التي تقدمها وأعتقد أن إحدى سمات العلوم الاجتماعية أن ذلك القياس لا يمكن أن يطبق بطريقة.
اضافةتعليق
التعليقات