اشتهرت في الآونة الآخيرة مهارة اليقظة الذهنية القائمة على التأمل والتي تعني الاستغراق الذهني والحسي في اللحظة الراهنة، في حين أن حضور الذهن والتيقظ له جذور ضاربة منذ قرون عديدة في الثقافة اليابانية.
لم يكد يصل قطار "شينكانسن" الفاخر فائق السرعة في هدوء إلى المحطة، حتى شاهدت مفتش القطار يؤدي المهام الروتينية بطريقة غير مألوفة. ففي أثناء توقف القطار الذي لم يدم طويلا، بدأ مفتش القطار في العربة الأخيرة في التحدث إلى نفسه، وأخذ ينفذ مجموعة متلاحقة من المهام، معلقا على كل منها بصوت مرتفع، وكان يشير بيديه بحماس إلى مواضع عديدة من القطار مع كل مهمة يؤديها.
فما الذي كان يفعله مفتش القطار؟ يمكننا القول إنه كان يوجه انتباهه ليكون على وعي بكل ما يجري في اللحظة الراهنة. ويطلق اليابانيون على هذه الطريقة "شيسا كانكو"، التي تعني التحقق من المهمة والتفوه بها، وهو تدريب اعتاد موظفو السكة الحديدية على ممارسته لما يزيد على 100 عام لمنع وقوع الأخطاء. إذ يشير مفتشو القطار إلى الأشياء المراد التحقق منها ثم يذكرونها بصوت مرتفع أثناء تنفيذها، وهذا بمثابة حوار بينهم وبين أنفسهم للتأكد من أنهم لن يغفلوا عن شيء.
ويبدو أن هذه الطريقة أثبتت نجاحا. إذ أوضحت دراسة أجراها معهد الأبحاث التقنيّة التابع لهيئة السكك الحديدية اليابانية، ونوهت عنها جريدة "التايمز" اليابانية، أن العمال يرتكبون في المعتاد 2.38 خطأ من بين كل 100 خطوة في المهام البسيطة، في حين قلّت الأخطاء بعد النطق بالمهمة أثناء تنفيذها إلى 0.38 في المئة فقط من الخطوات، أي أنها انخفضت بنسبة 85 في المئة.
إذن قد عرف اليابانيون هذه الطريقة قبل سنوات طوال من ذيوع صيت اليقظة الذهنية التي أصبحت مرادفة في السنوات الأخيرة لما يطلق عليه اليابانيون اسم "زازن"، التي تعني الجلوس متربعا على وسادة مع التأمل.
إلا أن جون كابات زين، الأستاذ المتقاعد بكلية الطب جامعة ماساتشوستس، الذي أسس عيادة تخفيف التوتر من خلال التأمل والتيقظ الذهني عام 1979 في الجامعة، يقول: "إن اليقظة الذهنية لا تقتصر على الجلوس في وضع اللوتس بوضع إحدى الساقين المتعارضتين فوق الأخرى كما لو كنت تمثالا في المتحتف البريطاني، بل ببساطة اليقظة هي الوعي بكل صغيرة وكبيرة في اللحظة الراهنة".
وتأصل هذا الوعي باللحظة الراهنة في وجدان اليابانيين منذ قرون طويلة، ورغم أنك لا تسمع الناس هناك يتحدثون عنه، فإنه يتجلى في شتى مظاهر حياتهم.
ويلاحظ أن السمة المشتركة بين مراسم الشاي وأشعار الهايكو القصيرة والخروج لرؤية تفتح أزهار شجر الكرز، هي تعظيم قيمة اللحظة الراهنة.
في مراسم الشاي، يستغرق المشاركون فترة من الوقت في تأمل تصميم القدح قبل احتساء الشاي ويظهرون إعجابهم بزينة غرفة الشاي، التي تستخدم فيها دوما نباتات وأزهار الموسم. والأهم من ذلك، يحتفي اليابانيون من خلال مراسم الشاي باللحظة التي تجمعهم بهذا الشخص في هذا المكان، لأن كل لحظة لن تتكرر إلا مرة في العمر.
وتعود جذور شعر الهايكو الياباني، وهو أحد أشكال التراث الأدبي الياباني، إلى القرن السابع عشر، ويسمو هذا الشعر بأهمية اللحظة الراهنة في صورة أدبية حازت على شهرة عالمية. ويسعى شعراء الهايكو إلى تجسيد خلاصة المتعة اللحظية في 17 مقطعا لفظيا فقط، باستخدام صور مليئة بالمعاني مستقاة من الطبيعة، لنقل الشعور بالاستنارة المفاجئة أو البصيرة التي عرفت بها طائفة الزن، إحدى الطوائف البوذية.
ولا شك أن ما من شيء يعكس استمتاع اليابانيين باللحظة الراهنة كما يعكسه احتفالهم بمشاهدة تفتح أزهار الكرز، الذي يعمّ كل أرجاء اليابان ويحرص اليابانيون على المشاركة فيه كل ربيع. فلماذا يتحمس اليابانيون للمشاركة في هذه المناسبة؟ لأن هذه الازهار ببساطة لا تدوم إلا لأسبوع واحد فقط، يقل أو يزيد. قال شونميو ماسونو، الراهب بطائفة الزن ومصمم الحدائق: "ينظر اليابانيون للجمال على أنه سريع الزوال".
ويتجلى إيمان اليابانيين بأن الأشياء الجميلة سريعة الزوال في الكثير من الممارسات الأخرى، الأقل شهرة، مثل مشاهدة القمر. وستنبهر حتما ببلد يخصص أمسية في شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام لتأمل البدر، أو يقيم مهرجانات للتعبير عن الشكر والامتنان للجماد، بدءا من سكاكين المطبخ القديمة ومرورا بفُرش الكتابة التي يستخدمها الخطاطون ووصولا إلى إبر الخياطة المستخدمة.
وبفضل كتاب المؤلفة هيساكو فوجي الأكثر مبيعا "الحزازيات، صديقاتي العزيزات"، زاد الإقبال على مشاهدة نبات الحزاز أو الموس الذي ينمو في الأماكن الرطبة، ولا سيما بين الشابات اللائي يخرجن في مجموعات بقيادة مرشد إلى الغابات المكسوة بغطاء من نبات الحزاز. ولا تقتصر هذه الجولات على استنشاق الأزهار، بل تجثو الفتيات على يديها وركبتيها بعدسات مكبرة وتمعن النظر في الآشنة بديعة الصنع.
ربما قد تبدو هذه الأعشاب لمن هم أقل تقديرا للطبيعة، بلا أهمية، ولكن حدائق طوائف الزن لا تكتمل من دون الصخور والمصابيح الحجرية المغطاة بنبات الحزاز، وهذا يجسد مفهوم الجمال عند اليابانيين أو "الوابي سابي" الذي يتسم بالبساطة والتواضع والنظر للأشياء الجميلة على أنها ناقصة وزائلة.
إلا أن التيقظ عند اليابانيين لا يقتصر على التحديق في الحشرات والأزهار، إذ يمكن الاستفادة منه في استخدامات لا حصر لها تتحكم في كل جوانب الحياة اليومية، وكلها تهدف إلى مساعدتك في أن "تعيش اللحظة الراهنة".
وفي المدرسة، يبدأ اليوم الدراسي وينتهي بمراسم قصيرة، يتبادل الجميع خلالها التحية وتُعلن فيها جميع الأحداث التي من المفترض أن تقع أو التي وقعت بالفعل أثناء اليوم. وقبل كل حصة وبعدها، يقف الطلاب والتلاميذ وينحنون ويشكرون بعضهم بعضا. وقبل أن يبدأ المدرس في شرح الدرس يطلب من الطلاب أن يغلقوا أعينهم ليركزوا انتباههم.
وبالمثل، يقوم عمال البناء بتمرينات جماعية لمط عضلات الجسم لتهيئتها ليوم العمل. وفي المكتب، سيقول لك زميل العمل "تبدو متعبا"، تعبيرا عن شكره وتقديره للعمل الذي قمت به. وفي الاجتماعات، إذا أعطيت لأحدهم بطاقة العمل الخاصة بك ستجده يتفحصها بعناية ويبدي تعليقا، ولا تتوقع أبدا أن يأخذها من يدك ويضعها مباشرة في جيبه.
كل هذه الممارسات تبرز ما يطلق عليه كابات زين "تعمد الانتباه للأشياء التي لا نكترث لها في المعتاد"، فهي تساعدك على أن تبقى على وعي بالمكان المحيط بك وبكل ما تفعله طوال اليوم، بدلا من أن تظل في عملك غافلا شارد الذهن ساعة تلو الأخرى وكل ما يشغلك هو موعد الرجوع إلى المنزل.
في حقبة كاماكورا التي امتدت من عام 1185 إلى 1333، اشتهرت تعاليم الزن بين أبناء طبقة الساموراي، التي كانت تعد من أعلى الطبقات في اليابان آنذاك، وكان تأثيرها طاغيا على الفنون، بما في ذلك، مراسم الشاي، وتنسيق الأزهار وزراعة وتصميم الحدائق. وفي حقبة إيدو التي امتدت من عام 1603 إلى عام 1868، والتي حلّ خلالها السلام، انتشر تأثير الزن ليصل إلى تعليم عامة الناس.
يرى المنتمون إلى طائفة الزن، أن الزن هو نظرة للحياة يتغلغل تأثيرها إلى كل عمل تقوم به، بدءا من الاستحمام والطهي والتنظيف ووصولا إلى العمل. وقال إريكو كوواغاكي من معبد شينشوغي، في مدينة فوكوياما، بمحافظة هيروشيما: "نحن نمارس تعاليم الزن في كل نشاط وسلوك في حياتنا اليومية".
وثمة قصة طريفة من قصص طائفة الزن، مأخوذة من مختارات لنصوص الزن التي جمعها بول ريبس في كتابه "اللحوم والعظام من منظور مدرسة الزِن" والذي طبع عام 1957، تلقي هذه القصة الضوء على هذا الجانب تحديدا من تعاليم الزن، وتدور حول تينو الذي أمضى سنوات طوال في الدراسة ليصبح معلما للزن، ثم ذهب لزيارة نان إن، أحد حكماء الزن، وكان المطر يهطل بغزارة، وكما جرت العادة، ترك تينو قبقابه ومظلته في المدخل قبل دخول منزل نان إن.
وبعد أن تبادلا التحية، وجه نان إن سؤالا لتينو قائلا: "هل تركت مظلتك على يمين القبقاب أم على يساره؟"، وهنا أدرك تينو، الذي عجز عن الإجابة، أن الطريق أمامه لا يزال طويلا لإتقان الزن، وعاد أدراجه ليدرس ست سنوات إضافية.
وربما لا يرغب الكثيرون في التدقيق في الأمور إلى هذا الحد. إلا أن سؤال نان إن يظل في محله، ولا سيما بعد أن اكتشف المزيد من الباحثين أن الوعي بكل التجارب الحسية والذهنية في اللحظة الراهنة لا يزيد من القدرة على التغلب على الإجهاد ويحسن الحالة الصحية فحسب، بل يقلل أيضا من مستويات القلق والاكتئاب.
وتزايد في الآونة الأخيرة عدد الخبراء الذين ينادون بالتدرب على التيقظ الدائم في كل أنشطة الحياة، ومن بينهم ليه ويس، إحدى كبار المدرسين ببرنامج تنمية التعاطف مع الأخرين بجامعة ستانفورد. وتقول ويس، إن المقصود بالتيقظ تنبه المرء ذهنيا وحسيا في كل لحظة طوال اليوم، وليس المقصود به التأمل لمدة عشر دقائق فحسب. وتصفه ويس بأنه: "الوعي الكامل بكل الأفكار والمشاعر والبيئة المحيطة بك، حتى لو كنت منشغلا بنشاط آخر".
إذن، كيف نحسن انتباهنا بعض الشيء في حياتنا اليومية؟ قد تبدأ بشيء بسيط، مثل الإشارة إلى الشيء المراد التحقق منه والنطق به قبل أن تترك المنزل في الصباح، كأن تقول مثلا، هل أغلقت الأضواء؟ نعم. هل أغلقت النوافذ؟ نعم. هل أحضرت معي النقود والهاتف؟ نعم. وبهذا لن تنسى مفاتيحك قط. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات