يعد هدر الفكر هو أهم ركن في ثلاثية الهدر الأخطر أي هدر الفكر والوعي والطاقات، لأنها تُصيب حيوية المجتمع ونمائه في الصميم. إذ هي تتركه في حالة الانكشاف وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية المتنامية.
كما تحرمه من فرص احتلال المكانة والدور والمشاركة على ساحة المنافسة الدولية، أي أنها تهمشه كحد أدنى، وتؤدي إلى استباحته واستتباعه كحد أقصى، بدون أن يكون له القدرة على المقاومة والفعل ورد الفعل ذلك أن صحة أي مجتمع ونماءه كما حيويته وقوته تتوقف على حيوية فكره، ويقظة وعيه وقوة طاقاته وحسن توظيفها أولا تجمع الأدبيات والتقارير على أن قوة المعرفة هي أساس اقتدار المجتمعات راهناً، وأن درجة الوعي ويقظته الضامن لنفاذ الرؤى وفاعليتها واتساع أفقها لاستيعاب الحاضر وقضاياه، واستشراف المستقبل ومتطلبات صناعته.
أولم يصبح من البديهيات أن المجتمعات التي تقصر أو تفشل في توظيف طاقاتها البشرية الحية تتقهقر إلى مواقع الشعوب المستغنى هي عنها، على أن هدر الفكر والوعي والطاقات وما يتضمنه من فقدان مناعة، يجعل المجتمع جثة هامدة وبالتالي عديم القدرة على مقاومة الاستبداد والعصبيات واستفحالهما. لا يمكن لاستبداد أن يحكم سيطرته، ولا يمكن لعصبيات أن تستفحل وتستنزف قوى المجتمع وموارده ومؤسساته إلا من خلال هدر الفكر والوعي والطاقات من هنا يتضح مدى إصرار الاستبداد والعصبيات على هذا الهدر الثلاثي، والنجاح في فرضه وتعميمه.
ديمومة تحكم الاستبداد والعصبيات تتناسب طردياً مع استفحال هذا الهدر الثلاثي إلا أن الأمر بدأ يتجاوزهما كي يهيئ الأرض الخصبة لانتشار الأصوليات الموغلة في انغلاقها هي بدورها لا تزدهر وتنتشر إلا في حالة هدر الفكر والوعي والطاقات حيث تقدم ذاتها على أنها البديل الذي يحمل الخلاص، ويرفع الغمة عن الأمة.
ولذلك ورغم التناقضات الظاهرية، فإن هناك حلفاً مصلحياً ضمنياً على أرض الواقع، ما بين ثلاثية الاستبداد والعصبيات والأصولية، في حربها المعلنة على ثلاثية الفكر والوعي والطاقات.
ولقد امتد هذا الحلف ليشمل أصولية الهيمنة الكونية الراهنة على مقدّرات الشعوب في تلاق مصلحي ضمني وواقعي، رغم ما يبدو على السطح من تناقضات ظاهرية على أن أصولية الهيمنة الكونية بدأت تلعب دور قائد الحملة والمنسق ما بين فيالقها الداخلية (العصبيات والاستبداد والأصولية). ذلك أنها بدورها لا يمكنها استباحة الشعوب والأوطان ونهب ثرواتها إلا حين تقع هذه في الهدر وفقدان المناعة، وبالتالي فقدان القدرة على المقاومة، وعلى الخيار وإدارة الذات والكيان كما أن نقيض الهدر بما يتوفر له من منعة وحيوية وحياة من خلال ازدهار الفكر وقوة المعرفة ويقظة الوعي وتفتحه وحسن توظيف الطاقات في عملية البناء والنماء، تحول فقط دون تسلط الاستبداد والعصبيات والأصوليات داخلياً، بل هي وفي الآن عينه تجعل الاستباحة والعدوان غير ممكنين من قبل أصولية الهيمنة الكونية، ومخططات نهبها للثروات والمقدرات، تشكل ثلاثية هدر الفكر والوعي والطاقات الحالة الأعـم لـهـدر الإنسان والمؤسسات، وبالتالي كيان المجتمع ذاته.
وتكمن خطورتها منهجياً في كونها تظل خارج بؤرة التركيز في تناول قضايا المجتمع، حيث يسلط الضوء أساساً على الأبعاد السياسية (من حرية وديموقراطية وعلى الفساد الاقتصادي (من نهب واستغلال ورشاوى)، في حين أنه يتعين تسليط الضوء وتركيز البحث على هذا الهدر الثلاثي لأنه يشكل الشرط المسبق لتهيئة التربة الخصبة لدوام الاستبداد، وما يميزه من فساد رغم ضعفه البنيوي، واستفحال الأصوليات رغم عجزها النمائي وبالتالي اجتياح الاستبداد الكوني للكيان والمقدرات، وسنتناول عناصر ثلاثية الهدر هذه التي تتكامل فيما بينها في حالة من تبادل التأثر والتأثير في حركة لولبية نازلة في الاتجاه، ومتسعة في الانتشار، مما يؤدي إلى فقدان المجتمع لمناعته. وسيتبين من هذا البحث مدى التهديد والخطورة التي تشكلها ثلاثية الهدر هذه خصوصاً أنها تتعرض لعمليات طمس مشکلات قناع مبرمجة، وإزاحة القضايا عن غير موضعها الصحيح، من خلال طرح لا تعدو كونها نتائج وأعراضاً وليست أسباباً، أو أصولاً. نبدأ إذاً بهدر الفكر من خلال مختلف ألوان وآليات الحجر على العقول.
وهو يؤول مباشرة إلى هدر الاقتدار المعرفي الذي أصبح القوة الأساس في تحديد مكانة المجتمعات وحيويتها على الساحة الدولية كل مشروع النهضة الغربي يتلخص سواء على مستوى الفكر، أو التقنية وإنتاجها في بناء عقل معرفي كبير، وما يزال، الغرب من السيطرة على الذات والكون في آن معاً، وصولاً إلى صناعتهما. وبالتالي فالحجر على العقول، ليس مجرد قمع للحريات قابل للأخذ والرد، والتبرير بمختلف الظروف الطارئة، بل هو قضاء على قوة السيطرة على الذات والواقع والمصير، وصولاً إلى صناعته..
اضافةتعليق
التعليقات