يوما بعد يوم يزداد المعقد تعقيداً، لا سيما مع تطور المعارف وتداخلها، ففي مجال القانون مثلاً، هناك الآن ما يعرف بالعقود المركبة complex contracts تلك العقود التي ظاهرها عقد واحد ولكن فحواها يتضمن أكثر من عقد، كعقد البيع بالإيجار (الإيجار التمويلي) وعقد الفندقة والعقد السياحي وعداها، ومع مثل هذا التعقيد، فإننا نصبح بصدد إشكالية تحملنا على التساؤل عما إذا كان ينبغي الوقوف عند الرأي القائل بأن هذا النوع من العقود ينظر فيه إلى العنصر الغالب (العقد الأقوى) ومن ثم تطبيق أحكام هذا الأخير فقط، أن نطبق أحكام كل عقد على حدة، أم أنه لا بد من وضع نظام قانوني مستقل لهذا النمط من العقود؟ كما أن الكتابات الأكاديمية تبالغ أحياناً في التعقيد، حتى كاد الأسلوب الجاف والمستغلق يتحول إلى ما يشبه الموضة في الأوساط الفلسفية، إلى درجة صارت معها الكتابة الواضحة عرضة للاشتباه بالسطحية وغياب أصالة الفكر.
ولا شك أن التبسيط في حالات مثل هذه مطلوب ويعمل بمثابة «خيط أريان» المنقذ للمشتغل بهذه الأنشطة، وهناك مساع جادة كثيرة ومستحقة للتبسيط المنطقي، ومن مثل ذلك ما يقوم به فريق نيكولا بورباكي Nicolas Bourbaki وهو اسم مستعار لمجموعة من الرياضياتيين، الفرنسيين في أغلبهم، التي تقوم منذ عام 1934 بتحرير كتاب في الرياضيات بعنوان Éléments وتلقي حوله محاضرات باستمرار في باريس، وذلك بهدف تبسيط المسائل الرياضية المعقدة بطريقة لا يعود معها القارئ محتاجاً إلى مصادر إضافية لفهم المادة، حتى صارت أنشطة فريق بورباكي Bourbaki تفهم من غير المتخصصين، ومع ذلك، فالتبسيط إن تجاوز حدوده – مثلما يدفع نحوه نظام التفاهة – صار خطراً، لأنه يؤدي إلى خفض لدرجة الجودة. ففي كتابه «فلسفة العمل» كتب هنري أرفون: أنشاهـد ازدهاراً موصولاً لأساطير جوفاء، ولأهواء جمعية غير معقولة، ولتزييفات عقائدية دامية.
ثمة مذاهب عابرة تطرح نفسها على أنها حقائق مطلقة وتزعم بهذا الاعتبار أنها توجه حياة البشر، وهي وليدة فكر التجمع، وتحمل علاماته: التبسيط، الذي هو عدو كل إرهاف وكل احتياط»، والحقيقة هي أن كل ما حولنا يشي بتسطيح الهام وتسخيف المعتبر، من خلال الاستخدام المبالغ فيه للغة وخطاب الساذجين، بدعوى التبسيط والحقيقة هي أن هذا التبسيط، إن بولغ فيه، يمكن أن يصل إلى درجة لا يرتجى منها التطور العقلي المجتمعي الصحي، بل يصير مهدداً له (أثر عن أينشتاين قوله: «كل شيْ ينبغي أن يكون في أبسط أشكاله، لكن يجب أن لا يكون أبسط مما هو عليه)).
البيداغوجي، كما يتعلق الأمر بخرافة التبسيط العلمي في مجال التخصص. ففي المجال قد لا تكون هناك جريمة أكثر فداحة من جريمة التبسيط العلمي الساذج، الذي ينزل بالمعرفة إلى مستوى قدرات غير العارف، عوضاً عن أن يرفع قدرات الأخير بما يليق بمستوى المعرفة التي كان ينبغي نقله إليها (لقد روی لنا برتراند رسل أنه عندما طلب ملك مصر الى إقليدس أن يعلمه الهندسة في دروس قليلة سهلة، كان الرد الشهير الذي أجاب به هو أنه «لا يوجد طريق ملكي إلى الرياضيات»). وللتقريب، ولأغراض النقاش فقط، لنستخدم المصطلح السوسيولوجي الدارج، ولنقل إن التعليم هو مجال طبقي – معرفياً - بطبيعته؛ شريحتاه هما الأرستقراطيون (طبقة عليا/ شهادات عليا)، والبروليتاريا (طبقة دنيا/ شهادات دنيا). وأبرز الفاعلين في الشريحة الأرستقراطية معرفياً هم المعلمون، وهم كثر، إلا أن«الحقيقيين» من المعلمين هم أشخاص ديمقراطيون بطبيعتهم.
أكثر من ذلك، فالمعلم الحقيقي هو ثوري، لا يحتمل الفروق الطبقية (المعرفية)، فيسعى لتحطيمها بكل ما أوتي من قوة. ابتداء، يقف المعلم على ربوة عالية، يشرف منها على معارف كثيرة، تتاح له وحده بسبب امتياز وضعه (العلمي) كأرستقراطي، دون طلبته. ولأنه، كمعلم حقيقي ثوري بالضرورة، فهو عوضاً عن أن يريح نفسه بأن يبقي طلبته – البروليتاريين معرفياً - في مكانهم بالأسفل فيكتفي بأن يصف لهم ما يراه هو من موقعه العالي على تلك الربوة (بدعوى تبسيط المعارف)، فإن دوره الحقيقي هو أن يتجاوز أنانيته المريحة، فينبذ مسوح الأرستقراطي بأن يشمر عن أكمامه، ثم يمد كلتا يديه لطلبته حتى يساعدهم جميعاً على تسلق تلك الربوة العالية، واحداً تلو الآخر، فيروا بأعينهم المنظر البانورامي المعرفي الجميل، الذي كان يراه وحده. إن مواجهة مثل هذا التحدي الثوري الكبير لا تكون إلا من خلال مواجهة العقبات المعرفية بحجمها الطبيعي، لا ذاك المختزل بدعوى التبسيط.
وعندما يساعد المعلم الحقيقي جميع طلبته على ارتقاء تلك الربوة المعرفية فإنه سيتعامل مع حمل ثقيل؛ سيؤلمه ساعداه، وستنغرز قدماه بالوحل، كما سينتهي به الأمر بأن يقف طلبته إلى جانبه تماماً، على ذات الأرض العالية التي كان ينفرد بميزة الوقوف عليها وحده دوناً عنهم.
وبذلك، فإنه سوف يحيل طلبته من بروليتاريا خاضعة إلى أرستقراطية متطلّبة، تتكون في مجموعها من نظراء له يناقشونه، يتعبونه، بل وقد يتفوقون عليهم عرفياً، ومع ذلك، فإن المعلم الحقيقي يدرك أنه الفائز دائماً، مهما تجاوزه طلبته بالمنظور المثالي المعلن، وعلى المدى القصير؛ لقد انتصرت ثورته وحققت أهدافها، أما بالمنظور النرجسي السري؛ وعلى المدى الطويل؛ فهو يدرك تماماً أن النتاج الحقيقي لجهده هو تحويل طلبتهم ن«أنداد» إلى «امتداد». سيعيش إلى الأبد، هذا المعلم الثوري.
اضافةتعليق
التعليقات