سحب سيجارته بهدوء، أشعلها وسحب منها نفسا طويلا كاد أن لا ينتهي، لم يسعني سوى أن أشاهد أشعة الشمس القادمة من الشباك خلفه المتضاربة مع سترته ذات اللون الأزرق البحري ذاك، كان دفئ الشمس ولون أشعتها المائل إلى البرتقالي متماشيا برقة مع بشرته التعبة المتهالكة..
خُيل إلي أنني أشاهد لوحة في متحف ما، كما لو أن الزمن قد توقف في تلك اللحظة، كان يتحدث عن وفاة ابنه الأصغر، كنت أعمل على رسالة الماجستير الخاصة بي، كانت قصته أكثر ما لفتني من بين القصص، عن احساس الآباء عندما تنقلب القاعدة الحياتية بأن نُدفن على يد أبنائنا لا أن ندفنهم، سألته إن كان قد تجاوز الأمر، أجاب بأنه لم يفعل ولن يفعل وأن التفاصيل مازالت تراود ذهنه بين اليوم والآخر، إن الأيام التي يعيشها الآن ماهي إلا مؤقت يتناقص تدريجيا ليقترب لقاءه بابنه، قال لي وهو يمعن التركيز بوجهي، تعطينا الحياة أحيانا نوعا خاصا من الألم لا يعود بعده مجال لأي نوع من الآلام مجددا، لا يعود هناك أي فسحة ولو صغيرة لأي كم من الألم مهما كان.
قال لي أن صغيره هو أكثر من كان يشبهه.. نصفه الآخر، نصفه الذي احتاج بخسارته له أن يرمم جزءا كبيرا متكاملا من ذاته، إلا أنه لم يفلح على حد قوله لي.
لدقائق كثيرة من حديثي معه لم أستطع سوى الغوص في جمال لغته العربية الفصيحة، لم أسمع منه ولا حتى كلمة عراقية واحدة!
ستصل إلى أذنيّ كل من يستمع إليه الحزن الهائل الكبير في صوته، الحزن الذي لم تظهره عيناه ولم تكشف عنه كلماته، إلا أن صوته خانه، أخرج كل حزنه على شكل نوتات غريبة، كأن صوته كان ينحب على شكل حروف عربية، ناشجاً خارجا بقوة كأن صاحبه قيده بشدة كيلا يكشف أن حزنه لم يندثر، كي لا يحرض دموعه على الانحدار، لا يجرأ الرجال على البكاء، يخافونه مهما تحرروا ومهما كبروا، أظنه قد تجاوز السبعين من عمره إلا أنه لم صراخ أبيه عليه حين كان في الخامسة بأن لا يسمح لدموعه أن تنهمر، هكذا خسرنا رجالنا، خسروا أنفسهم كي لا يخسروا دموعهم!.
اضافةتعليق
التعليقات