خيوط الشمس تتسلَّل إلى قدميها، هدوءٌ تام لا شيء سوى أصوات أبواب يتلاعب بها الهواء، عيناها مثقلة، جسدها الثقيل تشعر بتورمه، لا تستطيع النهوض، استطاعت أن تفتح عينيها بثقل سمعت صوت طفولي: أبي أمي انظرا بدأت تتحرك، التفتت لترى رجلاً اربعيني مظهره يوحي بالسلام، وإمرأة ثلاثينية بيضاء ترتدي ثوب منزل القت نظرة حولها مكان بارد رطب كأنه بناية مهجورة رفعت نفسها قليلاً، لتسأل: أين أنا؟
أجابها الرجل نحن في (هيكل لفندق) لا تخافي.
فجأة عصفت بذهنها تلك الصرخات وذكريات الامس، نعم تتذكر كيف دخلوا (داعش) كيف أحدثوا ضجة مرعبة باقتحامهم المنزل، ضربوا والدها وقتلوا أخاها وهي تحمل طفلتها لتركض الى السطح لتلتقي بزوجها ليأخذها منها ويعبران الى الشارع المجاور ثم، ثم ماذا، وقعت تلك القذيفة لِتفرق بينهما تذكرت كل ذلك ثم نهضت بسرعة لتصرخ اين طفلتي، اريد مريم.. مريم وهي تضرب وجهها، وتحاول الخروج مسرعة، تبعها احد الرجال ليمسك بها ويعيدها الى تلك الغرفة خوفاً من أن ينكشف مكانهم، واضعاً يده على فمها وهي تحاول التخلص منه.
أوقفها ليقول بغضب: انظري الى كل هذه العوائل، جميعنا فقدنا اطفال ونساء ورجال، أنا الى الآن لا أعلم مصير بناتي تفرقتُ عنهن، وتلك المرأة أولادها إنتمو لداعش لتخرج بفتاة واحدة ولا تعلم مصير فتياتها الأخريات، جميعنا ارباب عوائل، تصبري يا إمراة ولا تزيدي الطين بِلة، لنحافظ على ما موجود.
هدأت وهي تنظر حال العوائل وهم يجلسون على التراب والحصى، كلٌّ يحتضن ماتبقى من عائلته إلا هي، جلست بهدوء واضعة وجهها بين ركبتيها ودموعها تنساب كشلالات اثناء المطر لم تشعر إلا بيد رقيقة تلامس يديها رفعت رأسها لترى تلك الطفلة من جديد نظرت اليها بعطف ثم أجلستها بحجرها ثم سألتها ما أسمك عزيزتي؟
أجابت بصوت طفولي هادئ: جوانة..
أهلا بعزيزتي جوانة أجابتها:
_خالتي لاتبكي ارجوك حتى أنا لقد اخافوني داعش..
_حسنا لن أبكي..
مضت الساعات ونحن بلا طعام ولا شراب، الاطفال بدأوا يتضورون جوعاً ويسألون عن الطعام
خرج أحد الرجال بهدوء ليعود لهم فقط بالماء فهذا ما وجده، غادرت الشمس لتفسح لهم المجال للهروب، اتفق الرجال مابينهم، كل مجموعة نساء يخرج معهن رجل بدأنا نخرج وانا أحمل الطفلة جوانة لأن امها تحمل رضيعاً آخر.
وكنا أول مجموعة ابتعدنا لأميال لنسمع صوت مدوي لنلتفت نرى الهيكل ساقطاً بما فيه بفعل قذيفة نعم كل من كان هناك انتهى ماأصعب أن تجلس مع أناس طيبين وتتفاجأ بعد ثوان بمصرعهم.
بعض النساء ممن كان لديهم أحد في الهيكل بدأت الصراخ ليسحبها والد جوانة ونهرب الى مكان زراعي نركض ولا نشعر بالزجاج في اقدامنا ولا الشوك نعم هو الخوف يفعل مالم يستطع أحداً أن يستوعبه.
جلسنا لنرتاح قليلاً، جاءت عوائل أخرى الى هناك، تجمعنا في مكان واحد، نجلس بذعر لا نعلم ما يخفيه القدر، سمعنا أصوات الرصاص تقترب، أُعلن الهروب، تفرقنا لم نعلم الى أين المهرب، سقطتُ على وجهي ومعي جوانة ونرى الجميع ابتعدوا، هجم عليّ أحدهم؛ وحش وحش ليس ببشر صرخت جوانة بذعر سحبتها ليقع ويظهر من خلفه شبان وبيدهم عصى لقد ضربوه اخذوا الطفلة مني ومسك احدهم يدي وبدأنا بالركض بلا كلام سوى انفاس متعبة خائفة ترتجف داخلنا الى منزل مكتض بالناس، أدخلاني الى هناك ثم أشارا للجميع بالدخول للقبو وكانوا يأتون بالناس كل دقيقة، افترقنا عن عائلة جوانة فلم يبقَ الا أنا وهي تتشبث بي بذعر، انتهى ذلك الليل المخيف تسللت الشمس الى ذلك القبو كأنها تخاف أن يمسنا شعاعها لكي لاننكشف.
هدأت الاوضاع عرفتُ إن علي وإبراهيم احدهما من كربلاء والآخر من الناصرية كانا طالبين في جامعة الموصل،
اخرجونا عبر طُرق وعرة حسب تعليمات الكاكا سليمان؛ رجل كبير في السن من اهل الموصل،
لثلاث ليالي ونحن نسير وليس معنا الا الماء وبعض الاطعمة التي لا تُشبع حتى الصغير.
استطعنا الوصول الى مدينة ديالى عن طريق سيارات مكشوفة، هناك استقبلتنا عوائل من معارف ابراهيم وقدموا لنا الطعام ثم استحممنا، وهيّئوا لنا الطريق للانتقال الى كربلاء، جوانة تناديني أمي حتى ظن الجميع انها ابنتي، انتقلنا بخوف ورعب في تلك الحافلة، عوائل مثكلة ارهقها الفراق، لانعلم مصيرنا، لاندري إن كنا سنلتقي بعوائلنا من جديد، ابراهيم وعلي كانا يحاولان اخراجنا من تلك الحالة النفسية الفظيعة، كنا كجثث غادرتها الارواح، وأي ارواح!
علي يرتل القران تارة، وابراهيم يقرأ الادعية والزيارات تارة اخرى، يلاعبون الاطفال ويمزحون مع الكبار.
أرادت جوانة المشاركة لكني منعتها خوفاً من أن تبتعد عني فهي أمانة عندي، تقدم إبراهيم تجاهها مشيراً تعالي يا صغيرة، قَفزتْ من حجري بلا تردد وذهبت إليه، وبدأ يلاعبها، اصوات الاطفال تعالت بالضحك والكبار شاركوهم بذلك، حتى وصلنا الى سيطرة لا أعلم لمن تابعة، سألونا عن وجهتنا وانزلوا العوائل للتفتيش، كل ذلك الوقت وجوانة متشبثة برقبة إبراهيم كأنه والدها... سرنا حتى رأينا تجمع شبابي غفير على احدى المراكز، اوقف علي السيارة ونزل ومعه ابراهيم وبعض الرجال ليستعلموا عن الذي يجري هناك، مالبثوا حتى عادوا يحملون خبر فتوى الجهاد الذي أطلقته المرجعية.
وصلنا إلى مشارف بغداد، اتصل علي بجماعة من بغداد خرجوا لتسهيل دخولنا ثم انقسمنا الى مجموعتين مجموعة اتجهوا الى كربلاء برفقة علي، ومجموعة الى الناصرية مع إبراهيم، وكنت انا وجوانة ضمنهم، سكنا في اليوم الاول مع عائلة ابراهيم.
في الليل سمعتُ إبراهيم يحدث أمه عن التحاقه في الحشد الشعبي وهي تريد منه البقاء لايام لكي يرتاح من عناء مارأى
حتى قال لها:
(يمة لو شفتي الشفته چان ماخليتيني دقيقة أبقى هنا)..
في اليوم التالي جهزوا لنا حسينية بالقرب من منزل ابراهيم،
تعلق جوانة به كان حديث الجميع،
سألني أبراهيم عن اسم والدها حتى يحاول أن يوصي أحد عسى أن يجدوه،
أخبرته بإني لا أعرف اسمه، تفاجأ من ردة فعلي حتى قصصتُ عليه ماحصل،
تفهم الامر واخذ اسم زوجي، اخبرته جوانة بأسم والدها.
التحق إبراهيم ومجموعة من الشباب، وحاول الرجال معنا ان يذهبوا لكنهم منعوهم واخبروهم بأن احتياج عوائلهم لهم أهم الان، كلّ ذلك قبل ثلاث سنوات، بعض العوائل وجدت تكملتها والبعض الآخر لم يجد كما أنا وجوانة، التحقت جوانة بالمدرسة بالصف الاول، بمساعدة عائلة ابراهيم رحمه الله، نعم لقد استشهد ابراهيم في الرمادي، وجعل من ضمن وصيته جوانة التي أثر غيابه فيها كثيراً، عدنا الى تلك المدينة بعد خبر التحرير ولم تكن دقائق ذلك الطريق، الا كجمرٍ أُسعرت نيرانه.
لم اصدق تلك اللحظة التي التقيت فيها بزوجي وطفلتي مريم، لا اعلم كم من الوقت بقيت احتضن طفلتي، لم اشعر بذلك الوجود وانا بين يدي زوجي؛ الوطن الذي افتقدته لسنوات
وجوانة هي الاخرى وجدت والدتها، ولا اخبركم عن تلك اللحظة التي اجتمعت فيها مع والدتها واخوتها، أما والدها فقد اختار العيش بين يدي الباري شهيداً محتسباً.
اضافةتعليق
التعليقات