نريد وطن.. كتب هذه العبارة وكأنه يكتبها بدمه، وهو يتطلع إلى حروفها، وكأنها تنطق من أعماق روحه، تقترب الصورة محددة إلى ملامح وجهه وتتركز على عينيه لحظات، يبدو وحيدا يحتضن تلك اللافتة، عجز عاطفي صدر منه وأبعدها عنه بمجرد شعوره بأن من الممكن أن يراه أحد يحتضن لافتة.
نهض وتأكد من أن مستلزماته معه، خرج دون أن يراه أحد، ربما ستمنعه أمه أو والده لو عرفوا إلى أين ذاهب، يظهر في الطريق يمتعض وهو يرى أعداداً كبيرة من الناس بطوابير أمام الأماكن الترفيهية وكان عقله يوجه له سؤال؟ هل هؤلاء الناس لهم وطن وأنت لا؟.
ينتفض، يتمنى لو يصرخ بهم، يتخيل نفسه يهبط من الباص، ويقف أمام طابورهم الطويل ويرشدهم إلى اتباعه والتوجه للتحرير، بشعور لا ارادي يتوهم أنه اختنق بسبب تلك الصرخة. يتعافى من ذاك المشهد، لا تزال اللافتة بيده، يرن هاتفه يظهر على شاشته: أمي الحبيبة. يتصارع في داخلة هل يجيبها ويكذب أم يتجاهل اتصالها ودون شك ستخاصمه لعدة أيام، كانت النتيجة تجاهله لاتصالها، وضع هاتفه بوضع صامت ووضعه في جيبه.
يصل إلى ساحة التحرير تظهر الجموع المتظاهرة والدخان الصادر عن القنابل المسيلة للدموع،
تظهر مشاهد التحرير، مجاميع طبية، لقطة تتركز على داخل خيمة وكأنه ينظر إليها بعينه يظهر فيها تهافت المسعفين على الجرحى، لحظات ويتحول ببصره نحو متبرعين يوزعون الكمامات، يتجاوزهم، تتطلع عينيه نحو الجسر، تعترض طريقه مجموعة من الشباب الهاتفين، يفقد تلك اللافتة، يسير معهم ويردد عباراتهم المطالبة بالوطن.
عندما يصل الجسر يبحث عن أصدقائه، تدور عيناه في المكان لا يجدهم، في تلك اللحظة تسقط دخانية على بعد أمتار يلتقطها بعض الشباب المتجمعون هناك يظهرون وهم يحاولون انتشالها بكل تفاصيل بأيديهم الملفوفة بقطع قماش أحدهم يحمل دلوا والبطانيات، وآخر الذي مسكها يرميها بهد أن أدى رقصة بسيطة.
نحو الجهة التي صدر منها حيث القوات متركزة، يصرخ أحدهم فيه لكي يضع كمامة، يبتسم يختار مكان بينهم وهو يرن على أصدقائه، يرى اتصالات كثيرة كانت قد وردته لكنه بالكاد ميزها من الدخان الذي يحيط به جعلت من الرؤيا صعبة، يرن على أحد أصدقائه لا يصدر جواب.
يرن والده بتلك اللحظة، يتوتر قليلاً يرد وهو يستمع إلى صوت والده الذي يسأله عن مكان وجوده، يخبره بأنه خرج للتظاهر، يأتيه أمر والده بالعودة، يحاججه بأن يذهب ولا يصحبه، يسمع كلمات متقطعة من والده وهو يتحرك يمينا ويساراً أثر هجوم بالقنابل متتالية، إحداها كانت: المكان خطر، أنت لا تزال شابا.
يشعر بحرارة بإحدى ساقيه يسقط منه هاتفه لا يعرف لما خارت قوى يده، يرى كثيرين يتجمعون نحوه، تركن تكتك قربه وأيدٍ كثيرة تحاول حمله دفعة واحدة، يفقد الرؤيا لبعض الوقت، يسمع الأصوات، تتشوش لديه الرؤيا قليلاً، يحس بالأيادي ترفعه يضعونه في تكتك يسمع الكلام ولكنه لا يقوى على النطق، الألم يداهمه ويشعر وكأن الحرارة تزداد في قدمه.
يقف التكتك، يحاولون انزاله منه، وتحكم الصدفة بنفس المفرزة الطبية التي وقف عندها يفتح عينيه يلمح طفلاً يرفع لافتة مكتوب عليها: نريد وطن، إنها ذاتها اللافتة التي جاء بها اليوم لم تفقد حماسها.
اضافةتعليق
التعليقات